دور الدكتور البرادعى فى التغيير الذى وقع فى مصر لا ينكره إلا جاحد.. لقد كان أول سياسى يطالب بالتغيير الجذرى لنظام مبارك، وكان أول سياسى يُدخِل الشباب المصرى طرفًا فاعلاً فى الحراك السياسي، وكان أيضًا أول من حاول التغيير بأدوات جديدة غير تقليدية.. لقد قرأنا كثيرًا لبعض رموز "النخبة" المثقفة منذ سنتين، عند عودة البرادعى لمصر، اتهامهم له بأنه يعيش فى عالم من الأحلام والأوهام، وأنه غير واقعى وأنه لا يقدر أنه يواجه دولة عريقة لها مؤسسات قوية، وأنه يتعامل باستخفاف مع نظام له جذوره وشعبيته.. وأن الألوف الذين أيدوه على الفيس بوك شوية عيال.. وذهب نظام مبارك لأبعد من هذا حيث حاصروه إعلاميًا، وشنوا عليه حملة قذرة للنهش فى شخصه وعائلته. لقد حرك الدكتور البرادعى المياه السياسية الراكدة وكان سببا مباشرا فى نبتة الأمل فى قلوب أعداد كبيرة من الشباب.. هذه البداية القوية والجريئة تلك الرؤية الوثابة الثاقبة لم تستمر بعد الثورة لسبب أو لآخر.. فالدكتور البرادعى الذى أثار أشواق الحرية عند جموع كبيرة من المصريين، فاجأهم بمطالبته للمجلس العسكرى بأن يستمر فى سدة الحكم لثلاثة أعوام حتى تتهيأ الأجواء الديمقراطية فى البلاد، وفاجأهم بتصريحات تمس عقيدتهم وتدينهم برغم أن أول احتكاك جماهيرى له كان من خلال المساجد فى خطب الجمعة، ثم فاجأهم بسوء إدارته للجمعية الوطنية للتغيير وانفضاض كثير من مؤسسيها من حوله وتردده فى تحويل هذا الكيان المهم لحزب سياسى فاعل.. عندما تتأمل مواقف الدكتور البرادعى قبل وبعد الثورة، تنتابك حيرة فى تقديرها وربما تصل لاستنتاج أن بعض الرجال لهم أدوار فى ظروف تاريخية معينة فإذا تغيرت تلك الظروف لم يستطيعوا الخروج منها ويظلوا حبيسى أجوائها وعلاقاتها. لقد أثار انسحاب البرادعى من سباق الانتخابات الرئاسية ردود فعل قوية عبرت عن الشرخ العميق الموجود فى المشهد السياسى، وكانت أغلبها ردود فعل عصبية غاب عنها الإنصاف واتسمت بالتشنج والمزايدة وتصفية الحسابات.. وأكتفى بمثال واحد فى تصريحات الدكتور أيمن نور حين قال: - البرادعى كان قبلة الحياة للثورة.. وانسحابه ترك لها (المريض والمشلول والموهوم) - أرشح البرادعى لرئاسة جمهورية الضمير وليس جمهورية المشير - قرار البرادعى بالانسحاب صدمة للضمير الوطنى وصفعة للمجلس العسكرى وسياساته وقبله حياة للثورة. إن التصريحات التى أصدرها الدكتور البرادعى وأعلن فيها انسحابه لأنه وجدها معركة مزيفة، هذا التصريح لم يكن أمينا ولا سياسيا.. الواضح أن الرجل أدرك ضعف فرصه فى الانتخابات الرئاسية فآثر الانسحاب بكرامة، وهذا يحدث فى العالم كله، ولكن أن يهاجم المعركة الانتخابية نفسها قبل أن تبدأ ويراها معركة مزيفة، فإنها زلة تضيف إلى النهاية التعيسة مقارنة بالبداية الشجاعة المشرقة. لقد شاهدنا حوارًا مطولا مع الدكتور البرادعى منذ حوالى شهر واحد أجراه معه مجدى الجلاد، وقد قدم البرادعى فى الحوار دعاية قوية لترشحه.. هذه التصريحات من شهر واحد ولم يتغير من حينها أى جديد يدعو لتغيير البرادعى لقراره.. هذه كانت بعض تصريحاته فى ذلك الحوار: - أنا باشتغل على برنامج لتحفيز الاقتصاد وفى خلال الأيام القادمة سأعرضه على د. الجنزورى للصعود بمصر، فهى أولويتنا. - لن أترك تويتر، ولكننى سأنزل الشارع وأنزل الشارع بالفعل دون دعاية كبيرة. - أهلا وسهلاً بوصول الإسلاميين للحكم فهذا من حقهم لكن لابد من بناء مجتمع مدنى وتعليم، وفى أوروبا يصل للحكم أحزاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لكن بنية الدولة لا تتغير. - عاوزين نرجّع مصر للصدارة مرة أخرى فى الزراعة وعمليات التصدير والشحن والنقل والسياحة والتكنولوجية وكل ده مرتبط بالإنسان "الطاقة البشرية" و"التكنولوجيا". - لازم الدخل القومى بتاعى يتضاعف بالاستثمارات والإنتاج وأصرف على حاجتين أساسيتين هما التعليم والصحة. - الفقر هو الفقر فى كل مكان، وأنا أعرف الفقر لأننى شاهدت تجارب ناجحة لمحاربته فى دول أخرى.. ومن الطبيعى أن يعطى الساكنون فى العشوائيات أصواتهم للإخوان والسلفيين، لأنهم فقدوا انتماءهم للدولة، ونحن لم نفعل شيئا لمساعدتهم. - أول ما سأفعله إذا أصبحت رئيسًا أن أبدأ بمؤتمر من العشوائيات ليعرف الجميع أننا سوف نبدأ من هنا. - أقول للمشير طنطاوى دعونا نودعكم ونشكركم على أن تكونوا قد وضعتم مصر على الطريق الصحيح. - أقول لمرشد الإخوان «حملك ثقيل» الآن.. وأرسل رسالة طمأنينة للمجتمع وأن مصر ستكون قدوة لتقديم إسلام وسطى. - أقول للجنزورى ربنا يوفقك، فنجاحك من نجاح مصر. تلك كانت تصريحات الرجل منذ شهر ولم يستجد فى المشهد السياسى ما يجعله يقتنع بأن الانتخابات ستكون ديكورًا ومعركة مزيفة.. بل أكثر من ذلك أنه أطلق فى بداية يناير رؤيته الاقتصادية للفترة الانتقالية، حيث دعا إلى تبنى عشر خطوات عملية وسريعة للمساعدة على عودة الاستثمار، وتشجيع الإنتاج، وخلق فرص عمل جديدة، وتحقيق بعض من العدالة الاجتماعية المرجوة فى المدى القريب، مشيرا إلى أن هذه الخطوات ينبغى تنفيذها على المدى القصير لتفادى أزمة اقتصادية قد تعصف بمصر خلال المرحلة الانتقالية.. لقد رأى البرادعى الصورة الانتخابية قاتمة وحظوظه فيها ضئيلة، فانسحب بكرامة، فلا داعى لخداعنا أو الاستخفاف بنا بأى أسباب أخرى. لقد كتبت مقالا فى مارس 2010 بعنوان (خطة البرادعى)، كتبت فيه وقتها: "هل يمتلك الدكتور البرادعى مشروعًا سياسيا؟ أو هل يمتلك خطة محددة لحملته للتغيير؟ أم أنه يتحرك بدافع شخصى بحت نتيجة لغيرته على وطنه؟ وهل يملك شخص واحد تغيير الواقع السياسى لبلد فى حجم مصر؟ هذه الأسئلة الحائرة تتردد الآن بشكل مكثف منذ عودة د. البرادعى لمصر الشهر الماضى.. وإن المتأمل فى تاريخ الرجل يكاد يجزم أن لديه خطة محددة وتفصيلية ورؤية ذات برنامج للتغيير الذى ينادى به. إن الحراك السياسى الذى أحدثه الدكتور البرادعى لن يكون مجرد فقاعة فى الهواء، وإنما نعتقد أنه ستترتب عليه خطوات عملية منظمة وبرنامج متكامل طويل النفس يستنفر من حوله طاقات فردية وجماعية من أجل خطة محددة يحملها البرادعى فى رأسه". ا.ه. تلك كانت البداية الواعدة.. وبعد سنتين تقريبًا نشهد نهاية محبطة، أو هكذا تبدو.. إلا لو كان الرجل يريد أن ينتصر لنفسه المحبطة ولو على حساب مصر. د. محمد هشام راغب http://www.facebook.com/Dr.M.Hesham.Ragheb