رغم محاولات كثيرين وخاصة إسرائيل إجهاض ثورة 14 يناير في تونس في أعقاب الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي, إلا أن هذا البلد العربي واصل مفاجآته التي وصلت إلى حد "المعجزات" وضرب نموذجا جديدا يحتذى في النقل السلمي الهادئ للسلطة بعد أن فجر الشرارة الأولى للربيع العربي. ففي 23 أكتوبر الماضي, أدلى التونسيون بأصواتهم لانتخاب أعضاء المجلس الوطنى التأسيسى الذي تولى تعيين رئيس مؤقت وحكومة تصريف أعمال وشرع في صياغة دستور جديد للبلاد, بالإضافة للإعداد لانتخابات تشريعية ورئاسية. ولم يقف الأمر عند ما سبق, بل إنه في الذكرى الأولى لثورة 14 يناير تأكد للجميع أيضا أن تونس تعرف جيدا طريقها إلى المستقبل ولعل هذا ما ظهر في قائمة المدعوين لاحتفالات مرور عام على إنجاز الإطاحة بديكتاتورية بن علي, والذين كان من أبرزهم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، ورئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل. فمعروف أن الجزائر وليبيا تمثلان أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة إلى اقتصاد تونس واستقرارها, وبالنظر إلى أن آخر تصريحات للرئيس المنصف المرزوقي أثارت استياء في الجزائر بعدما قال خلال زيارة لطرابلس مطلع يناير إنه كان ممكنا تفادي إراقة الدماء هناك لو لم تلغ الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ عام 1992, فقد سارعت مفجرة شرارة ثورات الربيع العربي لاحتواء تداعيات هذا الأمر. وكانت الصحف الجزائرية شنت حملة وصفت بالشرسة على المرزوقي بسبب تصريحاته في ليبيا واعتبرتها تدخلا في الشأن الداخلي, كما أثارت تلك التصريحات حفيظة عدد من القوى السياسية التونسية التي وصفتها ب"زلات لسان" قد تساهم بتوتر العلاقات بين البلدين الجارين, خاصة في هذه المرحلة التي تعول فيها تونس على السياح الجزائريين للنهوض باقتصادها. ولذا سرعان ما أصدرت الرئاسة التونسية بيانا استغربت فيه التلميحات إلى محاولة المرزوقي التدخل في الشأن الجزائري الداخلي، واعتبرتها "مغلوطة وتفتقر إلى الموضوعية", مؤكدة احترامها التام والمطلق لسيادة الجزائر وحرصها على تعزيز العلاقات معها. ويبدو أن دعوة الرئيس بوتفليقة للمشاركة في احتفالات مرور عام على ثورة 14 يناير جاءت في إطار تأكيد صحة البيان السابق وإظهار مدى اصرار تونس على علاقات جديدة مع جيرانها. وبالنسبة لليبيا , فهي تعتبر شريكا محوريا إلى تونس وخصوصا على الصعيد الاقتصادي، إذ أنها كانت قبل ثورة 17 فبراير ضد نظام العقيد الراحل معمر القذافي ثاني شريك تجاري لها وبلغت المبادلات بين البلدين 1,25 مليار دولار نهاية 2009، بحسب البنك الإفريقي للتنمية. وهناك أيضا مسألة الحدود المشتركة والتي شهدت توترا في الأسابيع الأخيرة على إثر انتهاك مجموعات ثوار سابقين للحدود التونسية. هذا بالإضافة إلى أن تونس تعتقل رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي الذي تطلبه طرابلس، وأعلن المرزوقي خلال زيارته لليبيا أنه لن يعارض تسليمه إذا ضمنت له محاكمة عادلة. ورغم أن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي حاول فيما يبدو تعكير الاحتفالات الضخمة بذكرى ثورة 14 يناير, إلا أنه سرعان ما تلقى صفعة قوية عندما خرج آخر رئيس حكومة في نظامه محمد الغنوشي ليفضحه على الملأ . وكان اللبناني أكرم عازوري محامي بن علي نشر بيانا في 13 يناير أكد فيه أن موكله يحتج على "مصادرة أملاكه" في تونس، وينوي رفع قضية ضد السلطات هناك أمام هيئة حقوق الإنسان في جنيف. وندد عازوري في بيانه بما سماه الممارسات غير الشرعية للسلطات التونسية التي صادرت كافة أملاك بن علي المنقولة وغير المنقولة بما فيها منزله الخاص. واعتبر أنه لا يجوز مصادرة أملاك شخص إلا بعد إصدار حكم تحترم فيه معايير محاكمة عادلة وحقوق الدفاع، منددا بما وصفه بالإجراء التعسفي المنافي للدستور والقوانين التونسية. وبالنظر إلى أن البيان السابق جاء عشية احتفال التونسيين بثورتهم الشعبية التي وضعت يوم 14 يناير 2011 حدا لحكم بن علي المطلق الذي تواصل على امتداد 23 عاما, فقد أثار علامات ريبة حول توقيته, إلا أن تصريحات الغنوشي جاءت لتدحضه وتضاعف أدلة إدانة الرئيس المخلوع. ففي 13 يناير , كشف الغنوشي أن بن علي كان يعتزم قتل الآلاف من التونسيين للحفاظ على نظامه، والبقاء في السلطة، موضحا في حديث بثه التليفزيون التونسي الرسمي بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للثورة ضد بن علي أنه تلقى اتصالا هاتفيا صبيحة 14 يناير 2011 من الرئيس السابق أكد له فيه أنه عازم على إعادة الاستقرار والأمن في البلاد حتى لو أدى الأمر إلى قتل ألف أو ألفي شخص. وأشار الغنوشي الذي تولى الرئاسة التونسية لعدة ساعات فقط في 14 يناير من العام الماضي إلى أنه أصيب بصدمة كبيرة عندما سمع تلك الأقوال التي كانت بالنسبة له "المنعرج"، حيث اكتشف أنه كان يتحدث إلى شخص لا يعرفه، وهو ليس الشخص الذي عمل معه طيلة سنوات عديدة. وتابع أنه طلب في حينه من بن علي توخي العقل من خلال تفعيل الإجراءات التي سبق أن أعلن عنها، مضيفا أن ردة فعل بن علي التي تتسم بعنف شديد دفعته حينها إلى اتخاذ قرار بالانسحاب من العمل السياسي. وأضاف أنه بعد مغادرة بن علي تونس مساء 14 يناير، هاتفه الأخير من الطائرة التي أقلته إلى السعودية، وقال له إنه عائد إلى تونس صبيحة 15، معتبرا ما حدث معه "خيانة". واستطرد الغنوشي أنه بمجرد سماعه كلام بن علي انتابه الخوف وشعر أنه لا يخاطب رئيس دولة، وإنما شخص آخر لا يمت بصلة للجنس البشري. وبالنظر إلى أن الغنوشي كان تسلم الرئاسة التونسية المؤقتة لعدة ساعات فقط بعد الإعلان رسميا عن وصول بن علي إلى السعودية في 14 يناير 2011، كما تسلم بعد ذلك رئاسة الحكومة، ثم استقال من منصبه في شهر فبراير من العام نفسه تحت ضغط حركة الشارع, فإن تصريحاته السابقة تكتسب أهمية كبيرة لأنها تدين الرئيس المخلوع من جهة وتكشف تفاصيل اللحظات الأخيرة في حكمه من جهة أخرى. وكانت المحاكم التونسية أصدرت أحكاما غيابية ضد الرئيس المخلوع بعد توجيه تهم إليه من بينها الاختلاس والحيازة غير المشروعة للأسلحة والمخدرات وسوء استخدام السلطة. ومن بين أخطر الإدانات الموجهة إليه تهم القتل وزعزعة استقرار الدولة، وأصدرت السلطات التونسية مذكرة توقيف دولية بحقه بعد أن فر في 14 يناير 2011 من البلاد، ولجأ إلى السعودية مع زوجته ليلى الطرابلسي وابنه محمد وإحدى بناته. وبصفة عامة, فإنه يحق للتونسيين أن يفتخروا بثورتهم التي أطلق شرارتها "محمد البوعزيزي" وحققت إنجازات في عام واحد تكاد تقترب من "المعجزات"، بل وفجرت أيضا "الربيع العربي" وأسقطت الديكتاتوريات.