أتابع فى هذا المقال بتوضيح أراه واجبًا بعد أن اطّلعت على تعليقات القراء على مقالى السابق، حيث أجد فى هذا فرصة لإلقاء بعض الضوء على "القراءة الذكية والاستيعاب" وهو الموضوع الذى كان يحظى عندى دائمًا باهتمام خاص، سواء فى محاضراتى لطلاب الجامعة خلال الثمانينيات من القرن العشرين، أو فى دروسى قبل ذلك بالمدرسة الثانوية فى الستينيات.. وبدون الدخول فى تفاصيل أود أن ألخّص الموضوع فى الملاحظات التالية: الملاحظة الأولى: المقال السابق فى جوهره كان يدور حول فكرة رئيسة هى انبعاث موجة جديدة من العداء العنصرى للإسلام والمسلمين بين النخب والقيادات السياسية الغربية .. ورأيت من وجهة نظرى أن أهم بواعثه تتبلور فى أمرين: 1- ما أفرزته الثورة العربية من تداعيات أدّت من ناحية إلى توجّه جماهيرى عارم لبناء حياة ديمقراطية صحيحة، ومن ناحية أخرى إلى اكتساح التيارات الإسلامية كل القوى العلمانية المعادية للتوجه الإسلامى فى الانتخابات البرلمانية، حيث انكشف الحجم الحقيقى للقوى العلمانية فى تونس ومصر، وتبين للناس بوضوح أن انتماءاتها الحقيقية خارج حدود الوطن و ضد مصالحه فى أحيان كثيرة. 2- مخاوف أصحاب المصالح الرأسمالية الجشعة فى أوروبا وأمريكا من عدوى الثورة المصرية بصفة خاصة، فقد أصبح مغزاها و صورها تتردد فى أدبيات المفكرين الإصلاحيين وفى عقول الثائرين على النظام الرأسمالى الجشع.. هذا النظام الذى يذهب بالمغانم كلها لطبقة الأغنياء [السوبر]، من أصحاب البنوك والشركات الاحتكارية الكبرى، ويضع المغارم كلها على كاهل الجماهير الكادحة والطبقات المتوسطة، التى تُركت فى العراء وحدها تكتوى بنار الأزمات الاقتصادية.. لذلك هبّتْ ثائرة تدعو للتلاحم فى "حركة احتلال".. متوجّهة لأول مرة نحو مراكز ورموز صناعة الكوارث الاقتصادية فى أوروبا وأمريكا.. وأدارت ظهرها للسياسيين، إذ بدأت تتنبه أنهم مجرد أدوات لأصحاب السلطة الحقيقية. وعلى ذلك يصبح الهجوم على الإسلام والإسلاميين، والتحذير من خطرهم ، والعمل على تشويه صورتهم وإشاعة الخوف منهم ، له وظيفة مفهومة.. وهى: وضع حواجز نفسية وعقلية ضد تأثيرهم فى المجتمعات الغربية حتى لا تنتقل عدوى الثورة إلى الشعوب الغربية .. فى هذا الإطار وحده ينبغى أن يكون الهدف من مقالى السابق واضحًا ومفهومًا.. الملاحظة الثانية: فهم أحد القراء خطأ أننى أسبح بعيدًا عن الهمّ الداخلى، وأننى أُعطى أهمية أكثر مما ينبغى لما يجرى على الساحة الأمريكية.. خصوصًا انتخابات الرئاسة الأمريكية.. وفهم قارئ آخر أننى متوجّس خوفًا من وصول جنجريتش إلى السلطة.. وكتب رسالة بالإنجليزية أشد عنصرية من كلام جنجريتش نفسه، توعّد فيها المسلمين فى أمريكا بالهلاك والاستئصال على يد بطله المأفون "نيوت جنجريتش"...! كلاهما أخطأ فى الحكم نتيجةً لخطأ فى القراءة؛ فأنا أولا مازلت أسبح فى عمق الهمّ الداخلى، ولست أُعير انتخابات الرئاسة الأمريكية أكثر مما تستحق من الاهتمام.. ولا أعتقد أن جنجريتش بالذات يمكن أن يصل إلى البيت الأبيض.. ومن ثمّ لست متخوفًا منه، وعلى أى حال هو يستوى عندى رئيسًا كان أو كنّاسًا فى شارع وول ستريت.. ويكفيه غباء أنه – فى الوقت الذى لا تزال أمريكا تلعق جراح الهزيمة فى العراق وأفغانستان، وتستقبل القتلى والجرحى بالآلاف، وتُقدَّر خسائرها بالمليارات- يأتى جنجريتش ليَعِد الأمريكيين بفتح جبهة حرب ثالثة فى إيران..! فهل رأيت أكثر من هذا غباءً وعَمى...؟! وإنما ضربت به المثل كنموذج يمثل تأثير التنشئة القمعية على حياة وسلوك السياسيين عندما يصلون إلى السلطة.. وفى كل هذا ما زلت فى عمق الهمّ المصرى والعربى والإسلامى .. فأكبر ما يهمنى هو إضاءة الواقع الذى يجرى من حولنا بنور الحقيقة، كما أراها.. وأعتقد أن عمل الكاتب والمفكر، فى جوهره، هو عملية استبصار يخرج بها الوقائع من ضباب اللاشعور الذى هو من أسباب الاضطراب الفكرى والسلوكى إلى وضوح الرؤية العقلية، التى يعتبرها علماء النفس ضمن أهم شروط الحياة النفسية والعقلية السوية .. وفى هذا يتمايز الكُتَّاب والمفكرون فى درجات إخلاصهم للحقيقة، ودقة تحليلاتهم، وحسن اختيارهم للموضوعات.. ثالثًا – إذا كانت ظاهرة جنجريتش فى مظهرها العنصرى الفاقع تتصاعد الآن، على ألسنة القيادات والنخب السياسية فى الغرب.. فإنها ليست بعيدة عنا ، بل متوطّنة فى بلادنا على مدار عقود من الفساد والاستبداد والخنوع المذهل لإملاءات العدوّ الأجنبى، وتبدو تجلّياتها واضحة فى جماعات وأفراد استمرءوا العبودية فى كنف الديكتاتوريات، وهيمنة الأجنبى.. ولا يزالون يتطلعون فى انتماءاتهم وولائهم للخارج.. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما صرّح به بطرس بطرس غالى، الذى كره نجاح التيار الإسلامى فى الانتخابات فتحول يهجو الشعب المصرى الذى اختارهم.. ويعيّره بالجهل والأمية والفقر، ويتوعّده بتدخل الأمم المتّحدة إذا وصل الأسلاميون إلى الحكم ...!. وهذا كلام جُهّال لا يليق أن يصدر إلا من جاهل أو حاقد، لا من رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان، ولا من رجل كان أمينًا عامًا للأمم المتحدة...! فى الملاحظة الرابعة والأخيرة أقول: مهما تكاثر الحاقدون وتداعى أصحاب المؤامرات والمكر والمكائد، فى الداخل والخارج .. ومهما أنفقوا من جهد ومال لإعاقة هذا الشعب عن مسيرته فلن يفلحوا، وسيرتد مكرهم إلى نحورهم "وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال"...! أقول: رغم كل شىء يوجد عنصر يعمل فى الخفاء على إفشال تدابيرهم ومؤامراتهم ، هذا العنصر الخفى يتمثل فى عبارة إنجليزية لم أجد لها ترجمة مناسبة هى: Dysfunctionality ، أقرب شىء إلى معناها المثل العربى الذى يقول: "من مأمنه يُؤْتَى الحذِر"، ومن السهل أن تلاحظ هذا فى الثورات العربية المعاصرة؛ فجميع الدول والمؤسسات التى قامت على القمع والاستبداد كانت القوانين والإجراءات والاحتياطات التى اتّخذت لدعمها وتحصينها من التمرّد والمعارضة المحتملة، هى السبب المباشر فى انهيارها. وكلما زادت هذه الإجراءات والاحتياطات غلوّا وإفراطا كلما كان الانهيار مؤكدا وكانت نتائجه أكثر مأساوية، وهذا هو المعنى الذى يتبلور فى الآية القرآنية الكريمة: "ولا يحيق ُ المكرُ السَّيِّئُ إلا بأهله".. وفى هذه الآية: " إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدُّوا عن سبيل الله، فسيُنفقونها ثم تكون عليهم حسرة، ثم ُيغلبون والذين كفروا إلى جهنم يُحْشرون"... وفى الختام أردد هذه العبارة التاريخية فى وجه أعداء الحقيقة: "الله مولانا ولا مولى لكم" ... [email protected]