اختار التخصص في جراحات القلب بعد وفاة شقيقته بالقلب وهو في سن الخامسة يعتبر ابتسامة طفل ساعد في تخفيف آلامه أهم من الأوسمة والجوائز التي ينالها يقول إن قلوب المصريين الأكثر ألمًا بسبب الحزن والقهر وإحساسهم بالظلم
ملامحه المصرية المشربة بالسمرة، عيناه اللتان تلمعان ذكاءً، ابتسامته التي تحاكي الأطفال في براءتها، تواضعه الجم في حديثه، وسلوكياته الأخلاقية الرفيعة، تلك هي أهم ملامح ذلك الرجل الذي يصفه الإنجليز ب "ملك القلوب"، فهو يعد أبرز المتخصصين في مجال جراحات القلب على مستوى العالم، شهرته طافت الآفاق عالميًا، نال أرفع الأوسمة تقديرًا لتفوقه، فلم يزده ذلك روحه السمحة إلا تواضعًا، يعتبر مهنة الطب رسالة إنسانية قبل أن تكون أداة للربح وجمع المال، ولعل هذا ما دفعه إلى امتهانها والتخصص تحديدًا في جراحات القلب، يتذكر يوم أن كان طفلاً في الخامسة من عمره حين قال وقتها لوالده إنه سيصبح جراحًا للتخفيف من حزنه، بعد أن توفيت شقيقته متأثرة بمرض في القلب، البقاء السنوات طويلة بالخارج لم ينسه بلده مصر، فهو دائم التردد عليها ليس للنزهة والراحة، بل ليقوم بإجراء جراحات لغير القادرين، وهو يتولى حاليًا الإشراف على مشروع طبي ضخم بأسوان يحلم بأن يكون أهم مركز متخصص في جراحات القلب بالمنطقة. في بلبيس بمحافظة الشرقية، ولد "السير بروفيسور" مجدي يعقوب في 16 نوفمبر 1935 لعائلة قبطية أرثوذكسية تنحدر أصولها من أسيوط، وهو أب لثلاث أبناء ولدان وبنت، والأخيرة (صوفي) هي الوحيدة التي اختارت أن تدرس الطب، اقتداءً بوالدها، كما اقتدى هو بوالده الذي كان طبيبًا متخصصًا في الجراحة العامة، وكان يكن له كل إعجاب، وربما كان له الفضل في أن يمتهن ذلك التخصص الدقيق، خاصة بعد أن رأى حزنه الشديد على وفاة أخته، وصدقت نبوءة الطفل ابن الخامسة، فقد شق طريقه إلى النبوغ، وأهله تفوقه في الدراسة ليلتحق بكلية الطب جامعة القاهرة، ومنها حصل على بكالوريوس الطب والجراحة عام 1957م، في سنة الامتياز وبعد تخرجه كانت تجربته تحمل الكثير من المعاناة، فيحكي أنه كان يذهب إلى الأقاليم وهناك كان يتم نقله عن طريق الدواب، وبعدها يقوم أحد الأشخاص بحمله حتى يقوم بتخطيته المجرى المائي (القنا). ثم عمل جراحًا نائبًا في مستشفى القصر العيني، ولا يزال متذكرًا لأول عملية جراحة قلب أجراها في حياته، وكان في ذلك الوقت نائبًا في قسم عمليات الصدر، وتعرض لموقف مع أحد المرضى، وهو إما أن يقوم بإجراء عملية له، أو أن يتركه يتوفى، وهنا اختار فتح قلب المريض وإجراءها لتنجح أول عملية له، وكانت تلك أول عملية ناجحة في سجله الطبي الحافل الذي يمتلئ بأكثر من 25 ألف عملية قلب أجراها خلال مشواره الطويل، من بينها أكثر من 2500 عملية زراعة قلب. سافر إلى بريطانيا عام 1962، وذلك لاستكمال دراسته، فحصل على الزمالة الملكية من ثلاث جامعات، وهي زمالة كلية الجراحيين البريطانيين بلندن، زمالة كلية الجراحين الملكية بأدنبرة، وزمالة كلية الجراحين الملكية بجلاسكو، عمل باحثًا بجامعة شيكاغو الأمريكية عام 1969م، ثم رئيسًا لقسم جراحة القلب عام 1972م، وأستاذًا لجراحة القلب بمستشفى برومتون في لندن عام 1986م، ثم رئيسًا لمؤسسة زراعة القلب ببريطانيا عام 1987، وأستاذًا لجراحة القلب والصدر بجامعة لندن، كما شغل منصب مدير البحوث والتعليم الطبي، واختير كمستشار فخري لكلية الملك إدوار الطبية في لاهور بباكستان، بالإضافة إلى رئاسة مؤسسة زراعة القلب والرئتين البريطانية، وقد أصدر العديد من الأبحاث العالمية المتميزة والتي فاقت الأربعمائة بحث متخصص في جراحة القلب والصدر. يعد ثاني طبيب بالعالم يجري عملية زراعة قلب بعد الدكتور كريستيان برنارد (1967)، وكان ذلك في عام 1980م حين قام بعملية نقل قلب للمريض دريك موريس، الذي أصبح أطول مريض يتم نقل قلب إليه في أوروبا يبقى على قيد الحياة إلى أن توفي في يوليو 2005م، وكان يقوم بإجراء ذلك النوع من العمليات في البداية على نفقته ونفقة المتبرع حيث لم يكن آنذاك لأن تكاليف هذه العملية تخضع لنظام التأمين الصحي للمرضى، وقد نجح نجاحًا باهرًا في مجال زراعة القلب والرئة، ثم زراعة الاثنين في الوقت نفسه عام 1986. من العمليات النادرة التي قام بها عملية زراعة قلب لطفلة تدعى هنا كلارك تبلغ من العمر عامين، وكانت تعاني من تضخم في القلب بنسبة 200%، وكان ميئوسًا من شفائها، حيث أبلغ الأطباء والديها أنها ستفارق الحياة خلال 12 ساعة، لكنه قام بجراحة نادرة لها، حيث تم الإبقاء على القلب الأصلي دون استئصال، إلى جانب القلب الذي زرع إلى جواره، وهذا القلب الذي تمكن من استعادة حجمه الطبيعي وعاد للنبض مرة أخرى بعد عشر سنوات، مما فتح الباب لأسلوب جديد في العلاج يقوم على زرع جهاز ميكانيكي يعمل على مساعدة القلب المريض على الشفاء، وفي سن السادسة عشر أشرف على إجراء جراحة لها في عام 2006م لنزع القلب المزروع. اهتم خلال مشواره الطويل بتدريب الأطباء على مستوي العالم كله، مؤكدًا أنه بهذا ينقذ مريضًا قد لايتحمل الانتظار حتى يأتي بنفسه لإجراء العملية، وهو يفخر في كل مكان بالأطباء المصريين الذين تتلمذوا على يديه، وأصبحوا قادرين علي إجراء عمليات زراعة القلب بنجاح كبير، ومن أهم إسهاماته التي ستحدث طفرة حقيقية في جراحات القلب، إشرافه على تطوير صمام للقلب باستخدام الخلايا الجذعية، الأمر الذي سيسمح باستخدام أجزاء من القلب تمت زراعتها صناعيًا في غضون ثلاثة أعوام، وفي خلال عشرة أعوام سيتم التوصل إلى زراعة قلب كامل باستخدام الخلايا الجذعية. حين وصل إلى سن الخامسة والستين، اعتزل إجراء العمليات الجراحية واستمر كاستشاري ومُنظر لعمليات نقل الأعضاء، وأنشأ في عام 1995 مؤسسة خيرية تدعى "مؤسسة الأمل للأعمال الخيرية" تتولى إجراء عمليات جراحية لإنقاذ حياة مرضى القلب من الأطفال في البلدان النامية. في عام 1991، منحته ملكة بريطانيا لقب سير، وتم منحة جائزة فخر بريطانيا في أكتوبر 2007 من قناة "اي تي في" البريطانية بحضور رئيس الوزراء آنذاك وصديقه الشخصي جوردن براون، وهي الجائزة التي تمنح للأشخاص الذين ساهموا بأشكال مختلفة من الشجاعة والعطاء، أو ممن ساهم في التنمية الاجتماعية والمحلية، ولأنه مثال للأخلاق والكفاءة العلمية والتفاني في العمل، حصل علي جائزة الشعب لعام 2000 التي نظمتها هيئة الإذاعة البريطانية B.B.C، حيث انتخبه الشعب البريطاني للجائزة عن عموم إسهاماته العلمية وإجرائه أكبر عدد من عمليات زرع القلب في العالم. مع ذلك فهو لا يهتم كثيرًا بالتكريم ونيل الجوائز، لأنه يعتبرها تقليلاً من قيمة الإنسان، لأن التكريم من وجهة نظره هو إزالة المرض والألم عن المريض، فتبقى ضحكة طفل صغير بعد شفائه أو كلمة شكر يتلقاها من آباء وأمهات المرضى، الذين يساعد في تخفيف آلامهم، هي جائزة الشعب الحقيقية، التي يتلقاها.. كما يردد دائمًا، وفي حال عدم توفيقه في بعض العمليات يبدي حزنًا شديدًا، لا يضع في اهتماماته الخلفيات الشخصية لمرضاه، فقد أجرى عملية جراحية لأحد المتهمين في تفجيرات الأزهر، ويقول عن نفسه إنه طبيب وليس قاضيًا، يعتبر قلوب المصريين الأكثر ألمًا ومرضًا مقارنة بالآخرين، بسبب تلوث الهواء وانتشار التشوهات وصدمات القلب والحمى الروماتيزمية والأكل وقلة الرياضة، بالإضافة إلى الحزن الشديد والقهر والإحساس بالظلم له. في عام 2009، أنشأ يعقوب مركز لعمليات القلب في مدينة أسوان، هذا المشروع الذي يعتبره حلم حياته، والمجهز بأحدث التقنيات الطبية الحديثة، ويقدم خدماته بالمجان للمواطنين البسطاء الذين يترددون عليه من كافة أنحاء الجمهورية، ويتولى الإشراف على فريق الأطباء، ويشارك في بعض الأحيان في إجراء عمليات القلب المفتوح. وقد ترددت مؤخرًا أنباء عن وفاته، لكنه نفى بنفسه تلك الأنباء وقال إنه في حالة صحية جيدة للغاية، ويمارس عمله على أكمل وجه وبشكل منتظم.