يعرف المقربون مني أني أثمن كل مبادرات الاصطفاف الوطني و أدعمها بشدة ، فمصر الآن في منحدر خطر يستلزم توحيد كل جهود أبنائها المخلصين لإنقاذها ، خصوصا و أن صنبور المساعدات الخليجية الذي يعتمد النظام الحالي عليه قد توقف، أو مستمر بالشكل الذي يبقي مصر متماسكة شكلا فقط ، فاقدة لمعايير الأخذ بأسباب القوة ، أو النهوض باقتصادها نهضة شاملة ، معيدة إيانا إلى أجواء ما بعد حرب أكتوبر، حين اعتقد السادات أن جميع الدول ستهب لإنقاذ مصر من أزمتها بعد الحرب ، فخرج خالي الوفاض من اجتماع الدول العربية إلا من مقولته الشهيرة " مصر أولا ". و غرق مصر لن يفيد أي طرف من الأطراف المتصارعة ، حيث أن الوصول إلى وفاق مهما كانت شروط الاصطفاف و قسوتها هو السبيل الوحيد للخروج بمصر من محنتها .
و بعودة إلى وائل غنيم و مبادرته ، لا أدري لم داعبت قصة أصحاب أهل الكهف مخيلتي و أنا أقرأ بنود المبادرة ، و تحديدا جزئيين من آية في سورة الكهف " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه الى المدينة .... و ليتلطف "
حيث بدا من اعتذار غنيم أولا ثم مبادرته بعدها، أنه غفى في كهفه قرابة العامين ، ثم استيقظ ظانا أن " ورقه" مازال صالحا ، و أن الملك الظالم مازال حاكما ، مع اختلاف معايير القصتين جذريا
فما في جعبة غنيم من أفكار بالية مغالطة للحقيقة ( انكشف زيفها أمام الجميع الآن) ، مازال محتفظا بها معتقدا بصحتها و مؤمنا بها ، و عندما أراد أن " يتلطف " فإذا به "يتبجح "بأوراقه البالية ، واصما نظام حكم مرسي بالديكتاتوري، رغم أن مصر لم تعرف في تاريخها عهدا أكثر حرية و انفتاحا بشهادة من كانوا يعارضونه، في عهده ذو السنة الرئاسية الواحدة، و لم يعد البوح بضيق النظام الحالي من بعض "العتاب الرقيق " أو " اللوم الرفيق " خافيا ، و قد كانت المؤتمرات التي تخطط لمرحلة ما بعد مرسي تحظى بالدعاية و الحضور و التغطية الاعلامية الممتازة ، جنبا إلى جنب سب الرئيس ووصفه بالرئيس " الأهبل " على صدر صفحات الجرائد المصرية ، و لم يعترض سبيلهم أحد ، و لم يكسر قلمهم أحد ، و لم يغلق صحفهم أحد ، أو يحبس صحافييهم أو يضايقهم أحد، أو يخاف شر زوار الفجر أو الظهيرة أو المغرب أحد.
ثم و من بعد اخراج لما في مكنونات صدورهم ،يرجعون إلى بيوتهم آمنين مطمئنين ملتحفين آمالهم في إسقاطه مردين مقولة " ألا رجوع بمصر إلى عهد ما قبل يناير " فإذا هي بأفعالهم الصبيانية تعود بسماتها السياسية إلى فترة ما بعد ثورة الضباط 52 ، و الألسن في الحناجر لا تبارحها .
والمبادرة التي خرج بها وائل ، لا تستحق حتى وصف المبادرة ، فهي تساؤلات ربما ، إرهاصات فكرية ممكن ، حوار داخلي بينه و بين نفسه حدثه بصوت مرتفع قليلا فسمعه أحدهم و أعلنه باعتباره حل عبقري و دعوة للاصطفاف تستحق التثمين و الالتفاف حولها جائز.
فكل فقرة في مبادرته تنتهي ب " محدش عنده تصور إزاى ممكن نعمل ده ، وإزاى ؟ " ، " إيه العمل؟ " ، " أنا معرفش الحل" ،" ومعنديش تصور واضح لإزاى نخرج من الأزمة " و كأن الثوار كانوا يطرقون بابه ، ناحبين ، لاطمين ،شاقين الجيوب ، مهددين بالانتحار اذا لم يخرج علينا بحلول لما نحن فيه ، فخرج علينا شائط الرأس أشيبه ، يحكّه في تؤدة مفكرا ثم مجيبا : مش عارف !
و لا أدري هنا ، هل يجمع وائل استبيان ما ، أم يسأل صديق ، أم يفكر بصوت مرتفع ؟ أم تراه تأثر بالمثل الشهير " و فسر الماء بعد جهد بالماء " فأراد تفسير الواقع المائع الحالي بأسئلة أكثر ميوعة ؟ أو ربما أراد أن يظهر للجماهير موهبته في تقديم برنامج توك شو ، لعله يعجب أحد المخرجين و يتنباه .
بيد أنه قدم حلا عبقريا في النهاية- حتى نكون منصفين معه - حيث تقمص روح نيوتن بعد أن وقعت التفاحة على أم رأسه فاكتشف الجاذبية الأرضية ، و لا أدري ما الذي وقع على أم رأس غنيم فاكتشف أن " الحوار الجمعي للناس اللى بينهم روابط إنسانية يساعد للوصول لحل " !
وأتت "جمعي" تلك بمعاني غير مفهوم مغزاها ، هل هو يقصد بين جموع الشعب أم جمع الأسرة أم المجتمع أو جماعة الاخوان المسلمين ، فأوضحها غنيم في الفقرة التالية لها ، " "كتير مننا فى دايرة معارفه الشخصية ناس مختلفة مع بعض فكريا وعقديا، السياسة والأحداث الأخيرة فرقتهم عن بعض بس بعضهم لسه بيتواصلوا على المستوى الإنساني، وقادرين على الكلام مع بعض بسبب الروابط اللى بتجمعهم (زملاء عمل - أقارب - أصدقاء دراسة... ) "
و هذه الفقرة تحديدا تؤكد أن غنيم كان غافيا حقّا في كهفه ، فالأسرة الواحدة تفرق أفرادها ما بين زوج وشى بزوجته ، و زوجة كارهة لزوجها ، و أخ مخاصم لعائلته واصفا إياهم بالمغيبين ، و خال ناقم على أولاد اخوته ناعتا اياهم بالسفاحين منعدمي الضمير ، و كل ذلك تحت سمع و بصر و تشجيع النظام الحالي و الزمرة المقربة منه ، المحرضين عليه باعتباره من تمام الدين و ثوابته !
و أخيرا ، دعا غنيم إلى جلسات من مختلف الأطياف الفكرية يحددون من خلالها مستقبل مصر ، على أن يتم ادارة الحوار بالتناوب ثم بتنسيق آلية لتوثيق الحوار .
و الفكرة و ان كانت جيدة ، إلا أن تطبيقها مستحيل ، و هذا ما سوف آتيك بقبس من علم أسبابه يا وائل ، فاسمح لي أن أخبرك بما لم تحط به علما و أنت في سباتك الكهفي ، ففي سجون مصر خيرة شباب مصر و علمائها ، و تحت ترابها أفضل من عاشوا فوقها ، و فرضك لحل غريب " احنا مش جايين نتحاسب على الماضي " هو كفر بأهم مبدأ من مبادئ ثورة يناير ألا و هو القصاص ممن غُدر بهم .
هل نسيت يا وائل " يا نجيب حقهم ، يا نموت زيهم ؟ " هل نسيت يا وائل " حق الشهداء " ؟ هل نسيت يا وائل " طول ما الدم المصري رخيص ؟ هل كفرت يا وائل بالعدالة في القصاص ؟ هل أبخست ذوي المفقودين و الشهداء و المسجونين حقوقهم ؟ أين أهم بند في مبادرتك العقيمة و هو خروج معتقلي الرأي و المسجونات و الأطفال من سجون النظام ؟
هذه أوراقك يا وائل ردت إليك ، ارجع إلى كهفك غير مأسوف عليك ، و أعدك أني و كل الشرفاء سنبني فوق كهفك نصب تذكاري مكتوب عليه ، هنا كانت ثورة ، هنا كانت أحلام يناير ، و أحلام شباب زينها لهم شاب توسموا فيه خيرا ،و جرفتهم دموعه الى ميادين مصر ، ثم ماتت و ماتوا و مات !