مقولة تاريخية .. لا أدري من هو قائلها لكنها تلخص قصة مايجري على أرض الواقع .. (عندما يوجد فرد يسود السلام وعندما يوجد اثنان ينشأ الصراع ، وعندما يوجد أكثر تبدأ التحالفات ) هذه العبارة أراها ضرورية قبل الولوج الى لب الموضوع . ** ملخص القول فيما أدعاه فرانسيس فوكوياما وصامويل هانتنجتون ، هي أنهما تعرضا لموجة عاتية من الضباب الايديولوجي أو عمى الفكر المؤقت .!! *** كتب الصديق د. هاني نسيرة مقالا تحت عنوان " كسب هانتيجتون.. خسر فوكوياما " ، وارسلت له تعليقا على ماكتب وتوصل اليه من استنتاجات وقلت له : بل أخطأ المفكران في قراءة التاريخ ، واستقراء مكنونات المستقبل .. فاطلقا احكامهما حين قرآ سويا ظرفا تاريخيا معينا ومن ثم اصدرا أحكامهما الاول فيما ادعاه بصراع حضارات وهو في الحقيقة تكامل حضارات وان الاستشهاد بداعش الان ليس سوى محاولة اسقاط ظرف تاريخي على مجمل حركة تاريخية في الكون ، كما ان الصراع الدائر الان هو صراع بين داعش والمجتمع الدولي بمشاركة المسلمين .. وهذا صراع اراه داخل حضارة واحدة .. كأي حضارة تتنازعها تيارات وتنظيمات وافكار وهذا الظرف التاريخي الذي تعلو فيه داعش وغيرها في لحظة ضعف وتامر وهوان " لحظي " الى زوال باذن الله ، وحكاية نهاية التاريخ فيها نظر اخر .. فليس معنى نهاية عصر القطبين وانتهاء المرحلة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وظهور الراسمالية المتوحشة المتفردة وانتهاء الحرب الباردة .. ذلك ان الحرب لم تنتهي وهي للعلم ليست حربا بين حضارات كنوع من الصراع الحضاري ولكنها حربا بين انظمة وافكار استعمارية سواء شرقية او غربية ومهما تمسحت او ارتدت من اقنعة .. ذلك ان التاريخ لم ينته بعد لنسقط عليه افكار حقبة زمنية معينة لنسقطها على التاريخ كله .. هذا نوع من السذاجة الفكرية حتى ولو استهوتنا مثل هذه الافكار وصادفت قناعاتنا ، وباعتقادي ان الحضارات لاتتصادم ولا تتعارك .. ولكنها تتكامل او تتواصل لان التاريخ لا ينتهي .. ولا يتجدد .. انه يتسلسل .. ويتواصل ولكن في صيغ مختلفة وسياقات متباينة ربما تتصادم الصيغ وتتعارك السياقات .. واكاد اشير إلى أن ماتوصل اليه كلا الكاتبين هو من تاثير الكاتب برنارد لويس المستشرق البريطاني الأصل المولود في لندن عام 1916، ، اليهودي الديانة، الصهيوني الانتماء، الأمريكي الجنسية. المتتلمذ على يد كل من ماسينيون الذي كان يعنى عناية خاصة بتاريخ الفرق الإسلامية وبالتصوف. وعلى هاملتون جب الذي نال على يديه الدكتوراه عن اطروحته في تاريخ الإسماعيلية. **** منذ سنوات قليلة اصدرت كتابا عنونته " الغرب وكتابة التاريخ بدم الاخر " .. ناقشت فيه العديد من الافكار ومن بينها فكرة صراع الحضارات وحكاية نهاية التاريخ التي اعتذر عنها قائلها فيما بعد . وقد خلصت فيه الى أن جدلية الصراع بين بني البشر جعلت هنتنجتون ينظر الى الصراع كقيمة انسانية ، وكقانون تاريخي ، تفهم ابعاده ، وادرك قيمه ، لكنه فشل بالنهاية في ترجمته وتفسيره ومن ثم استخلاص الدروس والعبر ، فكان ان عبر عن ارادة غربية في فرض صراع من نوع خاص ، لفظه منطق الاشياء ، كما لفظته حركة التاريخ الانساني ، واثبتت الايام خطأه وتجنيه على الحقيقة . وقد كان هنتنجتون الذي وصفته بأنه العراب الذي اشعل الحريق جزءا من حالة عامة وانعكاسا لرؤية الحضارة الغربية في مجملها ، منطلقا من ثقافة اتسمت بالكراهية لكل ماهو عربي واسلامي ، كما انه انحرف بفهمه وفكره وعقيدته عن مجرى الحضارة لأنه لم يقم بالتفكير الجدي في معنى الحضارة . فاستخلص من الصراع قيما تخدم توجهه وقيمه كعراب قاد ولفترة طويلة المحافظون الجدد الذين تمكنوا من تجنيده فيما قرروه من سياسات . والواقع أن هنتنجتون أخطأ كثيراً فيما توصل اليه فيما توصل اليه : الاول : خطأ في منهج التفكير وفي الأداة التحليلية التي استخدمها : فصدام الحضارات في منهجه يمثل المرحلة الرابعة وربما الأخيرة في تاريخ الجنس البشري . فالتاريخ في نظره ينقسم إلى أربع مراحل: مرحلة صراع الملوك والأباطرة، ثم صراع الشعوب فيما بينها، ثم الصراع الأيديولوجي الذي منح الآفاق للمرحلة الرابعة وهي صدام الحضارات. الثاني : فهمه الخاطيء لمفهوم الحضارات، ومسألة الحضارة الكونية، والعلاقة بين القوة والثقافة وكذلك ميزان القوى المتغير بين الحضارات، والتأصيل في المجتمعات غير الغربية، مع البنية السياسية للحضارات، والصراعات التي تولدها عالمية الغرب وتفسيره للعسكرية الإسلامية والتوازن والاستجابات المنحازة للقوة الصينية وأسباب حروب خطوط التقسيم الحضاري والعوامل المحركة لها ومستقبل الغرب وحضارات العالم وهذا كله انتج تفسيرا خاطئا للحضارات باعتبارها ميدانا للصراع ، في حين ان الحضارات بطبيعتها لاتحمل جينات ذات طبيعة وقيم قابلة للتصارع اذا جاز التعبير الثالث : استخدامه كلمة الصراع كتعبير عن لحظة الصراع الذي يجري وسيستمر في أرض الواقع، لكي تكون هذه المقولة ذات دلالات عامة وشمولية فإنه يحقنها بقوة دلالية مضافة لتصبح أكثر تعبيراً عن جوهرية هذا الصدام، واتساع شموليته، فمن الصدام الحضاري إلى الصدام الكوني، ومن الصدام الجزئي، بين طرفين أو ثلاثة إلى صدام كلي تشترك فيه مجمل القوى البشرية بمختلف تشكيلاتها ، وهذه الاحكام لا تتسق وحركة التاريخ الانساني ، بل انه استخلص في لحظة تاريخية معاصرة قيمة اطلقها فيما يشبه التعميم على حركة التاريخ الانساني كله ، وصبغ به حركة الانسان في الكون باعتباره صراعا حضاريا وهذا مخالف لحركة التاريخ . الذي ادعى تلميذه فوكويا بنهايته ، في لحظة من لحظات التماهي الفكري المضلل . الرابع : تعمد اقصاء وبشكل غير مبرر لقيم الانسجام والتكامل والمواءمة والمصالحة والتواصل بين الحضارات الانسانية ، باعتبار ان هذه الحضارات تنبع كلها من كيان واحد هو الانسان لانه صانع الحضارة . كما ان اختزاله للصراع الذي من المفترض ان يدور ، ليس سوى صراع ديني ياخذ اشكالا متعددة ، في تعمد مقصود . فالقول بحتمية صراع الحضارات أو صدامها، يُجَافي سنة التاريخ ويتعارض مع طبيعة الحضارة، فالحضارة لا طابع عرقي لها، وهي لا ترتبط بجنس من الأجناس، ولا تنتمي إلى شعب من الشعوب، على الرغم من أن الحضارة قد تنسب إلى أمة من الأمم، أو إلى منطقة جغرافية من مناطق العالم على سبيل التعريف ليس إلاَّ . والحضارة هي وعاءٌ لثقافات متنوعة تعدّدت أصولها ومشاربها ومصادرها، فامتزجت وتلاقحت، فشكّلت خصائص الحضارة التي تعبّر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها، وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعاً. ولكلّ حضارة مبادئ عامةٌ تقوم عليها، تنبع من عقيدة دينية، أو من فلسفة وضعية، حتى وإن تعدّدت العقائد والفلسفات . ***** ان الاعلان عن صراع الحضارات ، الذي طرحه هنتنجتون ، عبر وبشكل صريح ومباشر ، عن الانفلات الفكري والتحريض العقائدي الذي مارسه ، تعبيرا عن مواقف المحافظين الجدد الذين جاءوا وقادوا وبشروا بالامبراطورية الامريكية التي راحت تفرض الديموقراطية على ظهر دبابة في العراق وافغانستان ، ومساندة اسرائيل دون تمييز ان تبصر ، كما عبرت وبشكل لايدع مجالا للشك عن خوف صناع القرار في الغرب من الصحوة الاسلامية والاقبال الكبير على اعتناق الاسلام في اوروبا وامريكا ، وفي اسيا وافريقيا ، والتلويح بالقنبلة الاسلامية التي سوف تنفجر في وجه العالم ان لم يتنبه لخطر الاسلاموية القادم ، او ما اصطلح عليه ب " فوبيا الاسلام " التي كذبها الواقع المعاش . اما فوكوياما ففي كتابه الذي جعل عنوانه ( نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، فقد بشر سواء في المقال أوالكتاب بالانتصار لنظرية الليبرالية الديمقراطية، مثلما بشر بنهاية عصور الإيديولوجيات وفناء الحضارات ماعدا الحضارية الامريكية الليبرالية الديمقراطية . وقد لاحظنا كيف أن أفكار فوكوياما جاءت متزامنة مع أفكار هنتغنتون، وكلتا الفكرتين ماهي إلا نتاج لتداعيات وصراعات دولية محددة، تمثلت بالأحداث التي أعقبت نهاية مرحلة الحرب الباردة بدءاً بانهيار الاتحاد السوفياتي ثم انهيار والمنظومة الاشتراكية في أوربا الشرقية، التي أودت الى ايجاد قواعد فراغ أحدثت بالتالي اختلالا في موازين القوى العالمية، ومن هنا نجد فوكوياما يكرس نظريته بالانتقال المتسارع من نهاية التاريخ إلى نهاية الإنسان . لقد بات انحياز فوكوياما الى النظام الليبرالي الديموقراطي الذي ينتمي اليه ، باعتبار انه النظام الذي سوف يسود على انقاض كل ماعداه من انظمة وعلى راسها النظام السياسي الاسلامي . فهو يرى ان نهاية التاريخ باتت حتمية باعتبار ان النظام الليبرالي الديموقراطي الذي يمثله قد قارب على الفناء والنهاية ، الا اننا نرى أن نهاية التاريخ هي نهاية التاريخ الحضاري لكل الحضارات التي ظهرت والتي لعبت دورا في حركة التاريخ والتي يعبر عنها في فلسفة التاريخ بأنهيار الحضارات أو سقوط الحضارات على اثر الصدام الحضاري الحالي، والتي شكلت الحروب السياسية والاقتصادية والفكرية اهم ملامحه. وبما أن الحضارات لاتتصادم ولا تتصارع ، فان نهاية التاريخ المزعومة هذه ليست حقيقة ابدية يمكن الركون اليها او الثقة فيها او التعويل عليها . وهناك من التفاصيل البسيطة التي لا يمكن لها ان تؤثر في قناعاتنا بان صراع الحضارات اورثنا نهاية ابدية للتاريخ .. ونحن نرى كيف ان الحضارات لا تتصارع والتاريخ لانهاية له الا بنهاية العالم في الواقع وفي الفلسفة ايضا .