كانت شوارع القاهرة هادئة يوم الجمعة الموافق 14 أغسطس. اعتاد المصريون التظاهر في الشوارع وبخاصة بعد أن أطاحوا برئيسهم بعد 18 يومًا من المظاهرات في 2011. ولكن الآن الوضع مختلف، فالمعظم لا يجرؤ على التظاهر منذ أصدرت الحكومة قانون التظاهر في أواخر عام 2013، والذي بموجبه وُضِع العديد من المتظاهرين في السجن. منذ عامين، بدت مصر مختلفة جدًّا وفق ما نشره موقع الساسة بوست . ميدان رابعة العدوية هو تقاطع مزدحم مثل غيره من الميادين في القاهرة، وكثيرًا ما يحدث فيه اختناقات مرورية، وقد تضل طريقك فيه إذا لم تكن تعرفه جيدًا وفق الساسة بوست قبل عامين، تجمع عشرات الآلاف من الناس يعتصمون في خيام لمدة ستة أسابيع في ميدان رابعة العدوية، مُطالِبين بإعادة الرئيس المخلوع محمد مرسي التابع لجماعة الإخوان المسلمين، والذي أطيح به في انقلاب عسكريّ مدعوم بتأييد شعبيّ. في 14 أغسطس 2013، استخدمت الحكومة المصرية العنف لتفريق اعتصام سلميّ ضمَّ حوالي 80,000 متظاهر. إنه أكثر الأيام دموية في تاريخ الجمهورية المصرية. أكدت هيومان رايتس ووتش (HRW) مقتل 817 متظاهرًا على الأقل في ميدان رابعة ذلك اليوم، وعلى الأرجح أن العدد الحقيقي أعلى من ذلك بكثير. في تحقيق أجرته جلوبال بوست في 2014، وجدت وحدها أن التعداد يفوق 900 قتيل. هذا ما قالت عنه هيومان رايتس ووتش أنّه: “هو من أكثر الأيام في التاريخ الحديث من حيث قتل المتظاهرين في يوم واحد”. وعلى الرغم من وجود بعض حالات المقاومة العنيفة من قِبَل المتظاهرين، أشار تقرير لهيومان رايتس ووتش أنّ الغالبية العُظمى من القتلى كانوا غير مسلحين. في يوم الجمعة، معظم من أحيوا ذكرى ما حدث منذ عامين كانوا من خارج مصر. قامت مجموعة تركية من القراصنة الإلكترونيين والتي تعرف باسم AkinCilar، باختراق الموقع الإلكترونيّ لمطار القاهرة لبضع ساعات، حيث نشروا رسالة عن الضحايا الذين قُتِلوا عام 2013. في مصر، يحاول الكثيرون جاهدين لينسوا ما حدث في ذلك اليوم. نذ المذبحة ولمدة عامين، واصلت الحكومة المصرية قمع أنصار جماعة الإخوان المسلمين. وكنتيجة لذلك، أصبح العديد من المصريين يتجنبون الحديث عن ذلك الأمر. ولكن في الذكرى الأولى لمن قُتلوا والتي كانت في العام الماضي، أخبر البعض مراسل جلوبال بوست عن الألم العميق الناجم عن أحداث ذلك اليوم. “لدي نفس الشعور عن المجزرة حتى بعد مرور عام على حدوثها”. يتحدث نور الدين، البالغ من العمر ثمانية عشر عامًا وقتها، وهو عضو بجماعة الإخوان المسلمين، وقد فقد أكثر من عشرة أصدقاء ومعلمه المفضل أثناء أعمال فض الاعتصام والعنف الذي تبعها. وقد هرب نور الدين مع عائلته منذ ذلك الحين إلى قطر. ويقول أيضًا: “لقد كان أسوأ شيء في حياتنا، في مثل هذا العمر يُفترَض أن نكون مع أصدقائنا، وعندما ترى صديقك قُتِل بهذه الطريقة…” ثم انقطعت كلماته. ثم أضاف: “لقد كان ذلك في مدينة نصر، لقد عشنا حياتنا كلها في مدينة نصر، ولم نكن نتخيل أبدًا أن يموت صديقك في الشارع المجاور لمنزلك، وعلى يد مصريّ مثلك”. شنت كل من وسائل الإعلام الحكومية ووسائل الإعلام المستقلة حملة ولمدة حوالي عام حيث وصفوا القتلى من جماعة الإخوان المسلمين بأنهم إرهابيون غير مصريين. في اليوم التالي للمجزرة، لم تنشر أيّ من الصحف المصرية الرئيسية أيّة صور لجثث القتلى. بدأت الحملة عندما أصدر مرسي إعلانًا دستوريًّا قوبِل برفض شعبيّ وذلك في شهر نوفمبر عام 2012، والذي منحه سلطات مطلقة، مما أسفر عن مظاهرات حاشدة التي قمعتها الحكومة بعُنف؛ مما أدّى لمقتل العشرات من المتظاهرين. هناك أيضًا عنصر مهم في القصة، وهو أن الإعلام صوّر المتظاهرين المُواليين لمرسي الذين اعتصموا في رابعة العدوية بأنهم أشخاص غير متعلمين جاءوا إلى العاصمة من الريف. اشتكى العديد من أولئك الذين يعيشون بالقرب من الاعتصام بأن المُظاهرات عطلت الحياة اليومية. وكانت بعض الخُطَب التي تلقى على المنصة الرئيسية للاعتصام تدعو للتفرقة وتوشك على التحريض الطائفيّ. عندما فرّ المتظاهرون من العنف وقت فض الاعتصام، رفض العديد من السُّكان مساعدتهم، بل وانهالوا سخريةً من المتظاهرين الفارّين. أخبر سكان الحيّ المتظاهرين بألّا يضعوا الجُثث على الرصيف أمام منازلهم، فاضطروا أن يضعوها في الشارع. عندما حاولت الصحفية أمينة إسماعيل – التي قدمت تقريرًا عن الاعتصام لوكالة الأنباء McClatchy الأمريكية- الاحتماء داخل أحد المباني من إطلاق النار، رفض السكان ذلك، قبل أن يسمح البواب أخيرًا لها ولزميلها بالاختباء في غرفته، ولكنّه أخبرهم بألّا يُحدثوا أيّ إزعاج لكي لا يُغضِبوا السُكَّان. لم تُظهِر وسائل الإعلام المصرية الرئيسية مستوى العُنف الذي استُخدِم ضد المتظاهرين في يوم فض الاعتصام، وبدلًا من ذلك، قامت وسائل الإعلام تلك بتصوير المتظاهرين بأنهم مسلحون مُحرِّضون. ساهمت روايات الإعلام تلك في وصفهم لما حدث ذلك اليوم في حالة الاستقطاب والمستمرة إلى الآن في مصر. بالنسبة للكثيرين، كان الجانب الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لمجزرة رابعة، هو ما أدّت إليه من فرقة وانقسام عميق في المجتمع المصريّ، بغض النظر، فضلًا عن قمع الجيش. مرِضت أمينة إسماعيل جراء أعمال العنف. إنها تتذكر مشيها على أطراف أصابعها بين جُثث القتلى في المستشفى المجاورة للميدان في محاولة منها لكي لا تخطو فوق الجثث أو على الدم. قام أحد الأشخاص بتشغيل المروحة في الغرفة مُحاوِلًا الحفاظ على الجثث من التعفن من حرارة الصيف. كانت عائشة – عضوة سابقة بجماعة الإخوان المسلمين والتي تركت الجماعة عام 2011- في الاعتصام في يوم الفض تتطوع في المستشفى حيث كانت تستقبل جُثث القتلى وتقوم بتحديث قوائم تعداد القتلى. (تم تغيير الاسم من أجل الحفاظ على سلامتها). قالت إنها عملت “وكأنها آلة” محاوِلة إقناع نفسها أن ذلك المشهد المروّع الذي تمر به ما هو إلا مجرد كابوس سينتهي، تقول إنّ اللحظات الأكثر هدوءًا في المجزرة تطاردها أكثر من الفوضى. تتذكر عائشة أنها شاهدت أبًا يجلس مع ابنه ذي الثمانية عشر عامًا والمُصاب بجروح جسيمة. لم يستطع ذلك الأب إخراج الصبي معه لأنه يعلم أن الاعتصام كان محاطًا بقوات الجيش والشرطة، لذا جلس بهدوء مع ابنه الذي يحتضر ثم بدأ في الحديث. تقول عائشة: الأمر كما أنه لم يكن يعلم أنّه ليس بمقدوره شيئًا ليفعله، ولا يمكن لأي أحد أن يفعل شيئًا، ثم قال الأب: “سوف أبقى هنا بجانبه أتحدث إليه”. كان يخبره عن قطعة أرض اشتراها في قريتهم وكيف أنّه كان يخطط لبناء منزل صغير جميل لكي يعيش فيه ابنه عندما يتزوج من الفتاة التي يحبها. في ذلك كانت المناشف قد نفذت، فاستخدم الأب ملابسه ليمسح دماء ابنه. بعد ذلك الموقف، تم تشخيص عائشة بأنّها تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). تقول عائشة في الذكرى الأولى للمجزرة: “لست متأكدة إن كنت أستطيع أن أشعر بأي شيء حقًّا”. لقد دمر ذلك الحدث الأليم أملها في أن تتقدم مصر. تشعر عائشة بالقلق الشديد حول الشباب الذين حضروا ذلك اليوم، وتقول: “هؤلاء الشباب لا يملأهم الآن سوى الكراهية”. في يوم فض الاعتصام، رفضت بعض المستشفيات استقبال المتظاهرين الجرحى. قام الدكتور عصام أنور – مدير مستشفى بالقرب من ميدان رابعة العدوية- بعلاج المصابين في ذلك اليوم، متفهمًا لماذا لم يقم غيره بإسعافهم، يقول خلال مقابلة في العام الماضي: “لقد كانوا خائفين، لو أخذوا الجرحى فقد تأتي قوات الأمن. لقد كان الموقف غريبًا ولم يعرف أحد كيف ستنتهي الأمور”. بعد المجزرة، وصلت بعض ردود الأفعال لأن تنكر حدوث المذبحة. عندما نشرت أمينة إسماعيل صورة بشعة من أحداث الفض على الإنترنت مع تعليق “لا، هذه ليست سوريا، إنها مصر”، قام العديد من الناس بمهاجمتها محاولين تبرير القتل، قائلين إن المتظاهرين كانوا إرهابيين مسلحين. تقول أمينة إسماعيل: “هذا فطر قلبي حقًّا، لقد كان حتى أسوأ من رؤية جثث القتلى”. في الليلة التالية للفض، اقترضت عائشة بعض شواحن الهاتف من أجل الهواتف المحمولة التي أخذتها من جثث القتلى من المتظاهرين وبدأت تتصل بأُسَرهم. كانت أحيانًا تتصل بآخر رقم تم الاتصال به من الهاتف، وأحيانًا تقوم بالبحث ضمن الأسماء على الهاتف عن “أخي” أو “أبي” أو “أمي”. قامت بإجراء حوالي 30 مكالمة تلك الليلة. لم تستطع حتى إخبار عائلاتهم بمكان الجثث، فقد كان كل شيء بما في ذلك الهواتف ملطخًا بالدماء. الآن، يبدو كل شيء في ميدان رابعة العدوية هادئًا، باستثناء الوجود الأمنيّ الملحوظ على مدخليّ المسجد. يرى البعض أن الفض لم يكن يجب أن يحدث بهذه الطريقة، ويقولون إنه لو كان الفض قد تم بشكل سلمي، لحدثت إصلاحات حقيقية داخل جماعة الإخوان المسلمين. تقول عائشة: “إنهم كانوا ينتهون سياسيًّا، كان هيكل الإخوان ينقسم”. كان العديد من الأعضاء وبخاصة الشباب قد بدأوا يعترضون على القيادات. ولكن العنف الذي استُخدِم في فض الاعتصام وبعد الفض “جعلهم يعودون كوحدة واحدة متماسكين مع بعضهم البعض، بدلًا من التشكيك والاعتراض على القيادات لأن الوقت ليس مناسبًا لذلك”. لم تتم محاكمة ولو شخص واحد لعمليات القتل الجماعي للمحتجّين. وأذاعت وكالة أسوشيتد برس (The Associated Press) أنّ المسئولين الأمنيين قالوا لقواتهم قبل الفض بألّا يقلقوا من أيّ مساءلة عن أعمالهم في ذلك اليوم. في الأيام الحالية في مصر، تم تقييد حرية الأصوات المعارضة. وصفت عائشة شيئًا يسمّى “إستراتيجية دلو التبول”، وهي حكاية مصرية تحكي أنه ردًّا على مطالبة السجناء ببعض من الامتيازات فإن حراس السجن يسلبون منهم “دلو التبول”، لكي يصبح مطلبهم هو عودة الدلو وينسوا مظلمتهم الأولى. وأضافت عائشة: “لقد خفضوا مطالبهم إلى أشياء كانت حقوقهم قبل الثورة، ولكنهم لا يحصلون عليها الآن”.