لاحظت جدلا على مواقع التواصل الاجتماعي يتصل بحوار أجراه الكاتب الصحفي المعروف محمد حسنين هيكل مع طلال سلمان رئيس تحرير السفير اللبنانية ، وفقرات مجتزأة من الحوار يبدو أنها تحمل ضغينة "تقليدية" من هيكل تجاه الخليج العربي ، فأحببت أن أقرأ بنفسي الحوار ، رغم قناعتي الممتدة لعشرين عاما مضت تقريبا أن هيكل لم يعد لديه جديد ، وأفضل شيء قرره ، ولكنه لم يحترم قراره فيه ، هو الاعتزال ، إلا أنه من بعدها عاد ، لكنه يبتعد تماما عن أن يعطيك رؤية محددة أو معنى مفهوم للواقع والأحداث ، ويلجأ إلى اللغة الزئبقية والكلمات الفخمة الممزوجة بإرث تاريخي من مقابلاته مع زعماء وملوك ، لكنك في النهاية عندما تنفض تلك الأزياء عن كلامه لا تجد شيئا ذا بال ، فهو نموذج للقاعدة التي تقول : تكلم كثيرا ولم يقل شيئا ، وقد لجأ لهذا الأسلوب بوضوح بعد أن تورط بحكم السن وجمود الأفكار في تحليلات مضحكة جدا عن الأحداث المحلية والدولية ، أثارت سخرية واسعة ، مثل تحليله عقب أحداث سبتمبر الأمريكية وتفجير برجي التجارة العالمي ، حيث ذهب إلى أن المتطرفين الصرب هم الذين قاموا بالعملية ردا على تدخل أمريكا في الصراع في البوسنة ضد صربيا ، وكان أغرب تحليل يمكنك سماعه في العالم كله وقتها . اختيار هيكل للسفير اللبنانية يلخص لك بداية ميوله ومشاعره وما يريد أن يقوله ، فالسفير هي أحد أجنحة الإعلام الإيراني وإعلام حزب الله وإعلام نظام بشار الأسد في لبنان في السنوات الأخيرة ، وأي إطلاله ولو عابرة على عناوين الأخبار والمقالات والتحليلات تغنيك عن شروح للخلفيات ، وبالتالي ، كان الحوار الخالي من أي معلومات أو رؤية محددة لمجرى الأحداث ، والذي شغله طلال بمقدمة "صيفية" لذيذة وطويلة بالحديث عن القميص الأبيض الذي يلبسه هيكل والأزرار المفتوحة أعلاه ، كان الحوار عبارة عن ترويج لإيران الدولة والحضارة والتاريخ والتحدي لقوى الاستكبار الأمريكي وأنها دولة عريقة بمحددات جغرافية ثابتة ، وليس مثل جيرانها العرب الذين وصفهم بأنهم "فسيفساء" دول ، رغم أن هذا كلام من شعر القدماء الذي تجاوزه منطق التاريخ نفسه والحضارة المعاصرة ، فالولايات المتحدةالأمريكية ذاتها لا تملك كوطن ودولة ومكون بشري أبعد من ثلاثمائة عام فقط ، تاريخا وجغرافيا وسكانا ، ومع ذلك هي الدولة الأعظم في العالم اليوم وتقود تاريخ البشرية فعليا ، فمحاولة "تلقيح" الكلام على السعودية أو قطر أو الكويت بهذه الرؤية الكلاسيكية القديمة هو كسل ذهني وجمود فكر يعيش أسيرا لخبرات وثقافات تجاوزها الزمن والأحداث ، كما أني استغربت جدا أن هيكل حتى بمنطقه نفسه تجاهل العراق ، الدولة والشعب والتاريخ ، رغم أنه أكثر عراقة من إيران وكان مركزا سياسيا وثقافيا لنصف العالم على الأقل لقرون طويلة ، تجاهله هيكله واحتقره ، لأنه "عربي" ، وكذلك فعل مع "اليمن" رغم أن عمقه الحضاري والتاريخي يصك وجه هيكل ، ولكن لأن "الهوى" إيراني ، وكاره للعروبة ، كانت عينه لا ترى إلا الحضارة الفارسية. عاطفة هيكل تجاه إيران وأجنحتها في المنطقة جعلته يسقط أخلاقيا في تبرير غزو ميليشيات تنظيم حزب الله اللبنانيلسوريا وقتل شعبها ودعم نظامها الديكتاتوري الدموي ، وفي تفسيراته الأسطورية اعتبر أن غزو حزب الله لسوريا ودفاعه عن بشار هو حالة دفاع عن النفس ، أي والله ، وقال ما نصه في الحوار : (قتال "حزب الله" في سوريا هو للدفاع عن نفسه، وليس في معركة إثبات نفوذ. إذن فهو بحالة دفاع عن النفس في سوريا لأنه مستهدف ... وهذا ما يؤكد مشروعيته في انه يقاوم) ، إنه حتى لا يتحدث عن "دولة" مستهدفة ، هو يتحدث عن "تنظيم" وحزب وميليشيا مسلحة تحارب في أراضي دولة أخرى وشعب آخر لتوسيع وحماية مصالحها ويعتبره عملا مشروعا وأخلاقيا ، هذا جنون حقيقي في المعيار السياسي ، ولو فتح لهذا المنطق المجال ، لأصبح من حق أي تنظيم مسلح أن يقتحم البلدان المجاورة ويغزوها دفاعا عن نفسه إذا شعر بأنه مستهدف ، والطريف أن هيكل في حواره يصف حزب الله بأنه من "أجنحة إيران" ، مضيفا ما نصه : ( فمن يريد أن يضرب إيران اليوم يحاول ان يقص أجنحتها في أي مكان لديها فيه نفوذ) ، ولكنه بعدها بأقل من سطر ينفي أن يكون حزب الله جزءا من مشروع إيراني ! . نالت السعودية ، كالعادة ، قسطا أكبر من هجوم هيكل وسخريته وتحقيره ، حتى أنه يعلق على موقفها المتحفظ من الاتفاق النووي الأخير بقوله : (السعودية ودول الخليج أضعف من أن تشاغب على الاتفاق النووي) ، ولاحظ تعبير "تشاغب" ، لتدرك منطلقاته "النفسية" ومراراته التي لا ينساها تجاه المملكة ، وكان يمكنه التعبير : بأن توقف ، أو تتحدى ، أو تعاند ، ولكنه اختار اللفظ الذي يحمل التحقير والإهانة ووصمها بالنظام الخارج على القانون "المشاغب" ، وعندما علق على الوضع في اليمن بدا أسيرا لتاريخه مع عبد الناصر وورطته في اليمن ، فقال : (سيغرق السعوديون في مستنقع اليمن. عندما تدخّل عبد الناصر هناك كان يساعد حركة تحرر فيها وليس لديه حدود ملاصقة لها، أما السعوديون فلديهم باستمرار مطالب من اليمن ولقد استولوا على محافظتين فيها) ، ومرة أخرى ، لاحظ تعبيره "استولوا على محافظتين فيها" ، فالسعودية إذن قوة احتلال في نظر هيكل ، وهي نفس رؤية ولغة الحوثيين والإيرانيين بالمناسبة ، ومن حرر عدن ليس المقاومة الشعبية اليمنية بدعم خليجي ، وإنما هو احتلال سعودي ، ودع عنك أمنياته بغرق السعودية في مستنقع يمني على النحو الذي غرق فيه عبد الناصر . حقيقة ، وبأمانة كاملة ، أعاتب نفسي الآن أن طالت وقفتي نسبيا عند حوار هيكل مع طلال ، ولولا الهوجة والهالة التي ما زال البعض يصر على إضفائها على هيكل ما التفت إلى حواره أبدا ، فهو مفلس ، ومن ضياع الوقت أن تتابعه أو تبحث في كلامه عن معنى أو تحليل جاد أو بوصلة وعي عملي وواقعي في الوقت الراهن ، أبعد من اجترار أحلام عالم صباه وشبابه ، أو تصفية مراراته التاريخية التي لا ينساها أبدا .