أن تكون مهنياً فى مصر تلك مصيبة، وإلا ما معنى أن يكون بناة الأهرام معجزة المعجزات هم رواد العشوائيات بامتياز ، وأن يكون من علم العالم الزراعة يتلقون دروساً فى الزراعة من أصحاب التية اليهود رواد الصحراء، وأن يكون أهم علماء مدارس الرى يتركون مياه النيل تتسرب للبحر أو للصحراء تتشربها.. وجاء على المصريين حين من الدهر يسبون أنفسهم بالمهن فيقال على هذا زبال وعلى الآخر عربجى، وعلى الثالث ميكانيكى وكأنها ليست مهنًا لا يمكن لمجتمع أن يستغنى عنها وليس ببعيد عن ذلك ما يحدث فى كل المهن من السخرية من رجل الدين والمدرس والممرضة، وخلاصة الأمر أن الصنايعى لم يعد يعمل عملاً مشرفاً عند البهوات حاملى شهادات الليسانس والبكالوريوس ولا يجدون عملاً سوى فى دواوين الحكومة. ولم يتوقف أحد مثلاً لمناقشة ما فعله زميل فى تليفزيون الدولة المصرية الذى كان يعمل به وهو يخرج على مشاهديه رافضاً إجراء حوار مع رئيس الوزراء فى ذلك الوقت لأن ثوار التحرير لا يرضون عنه، أو يتوقف أحد عند مذيع آخر يمارس كل سطوة الفضائية التى يعمل بها وهو يعنف مدير أمن ، أو أمام مذيعة محترمة وهى تشخط فى أحد ضيوفها بألا يتكلم.. وفى المقابل لا أحد ينصف أى مهنى ، ولن أبدو متواضعاً ولابد من الإعتراف بأننى لم أصدق تلك الحملة الشرسة التى شنها البعض ظلماً وافتراء ضدى بعد أن استضفت صحفية جاءت تعترف بأنها سافرت وتدربت فى صربيا، وأن هناك بعض التمويل السياسى لبعض النشطاء، وقامت الدنيا، وقوائم سوداء وحمراء وطرحت اعتذراً عن توقيت الإستضافة عشرات المرات، وكلما سألت أحداً يقول إن القصة وصلته نقلاً عن آخر، وعندما أشرح الموقف يتحول بعد ثلاث دقائق ، وهكذا فى غمضة عين راح بعضهم يمحو تاريخ 30 سنة من الكتابة المستقلة فى الأهرام وغيرها ، والغريب أن بعض من هاجم كان ينصحنى أن أتوقف حفاظاً على أسرتى وعلى بناتى، ولكنهم كالقطيع ذهب ينهش جسد وعرض زميل ويجرده من وطنيته ومهنيته لمجرد أن فريق الإعداد فى البرنامج تصور أننا لابد من عرض كل وجهات النظر التى كانت متداولة حينذاك من أقصى اليمين لأقصى اليسار، ومن المحزن أن بعض القنوات المنافسة ظلت تلح على معد البرنامج أن يعطيهم تليفون الصحفية، وعندما فشلوا أقاموا مأتما لبرنامج 48 ساعة وجلست أرصد التشفى والانتقام والتشويه وعندما ظهرت الحقائق بحكم رائع من نقابة الصحفيين وأصبح المجتمع كله يتكلم الآن عن التمويل السياسى والتدريبات فى صربيا وكتاب حرب اللاعنف لجينى شارب، صمت السبابون ولم يجرؤ أحد منهم على الاعتذار بعد أن أخذتهم العزة بالأثم ولم أكن ولن أنتظر من أحد اعتذارشخصى ولكن أبسط حقوق الموضوعية والمهنية الاعتراف بأن ما حدث كان فى أسوأ الظروف خطأ فى التوقيت المهنى. أن تكون وسطياً أن تكون وسطياً أو مهنياً فى بلد كمصر تصبح مطارداً من القاصى والدانى، فكيف تكون وسطياً فى بلد أعور لا يرى إلا بعين واحدة وليس فى الكون سوى أبيض أو أسود سماء أو أرض، أهلى أو زمالك، حكومة أو معارضة معنا أم ضدنا، فى بلد تضيق مساحة الرؤية فلا يرى فى الكون سوى ثنائيات لا ثالث لهما، الأخطر من هذا وذاك أنك فى لحظة ستصبح مطارداً من الحكومة والمعارضة ولن ترضى عنك أيهما حتى تتبع ملة إحداهما، والغريب أن بلداً غالبية سكانه من المسلمين أصحاب الدين الوسطى لا هو متشرد كاليهودية ولا هو متسامح بافراط كالمسيحية فهو بين هذا وذاك.. العين بالعين والسن بالسن والبادى أظلم، ويستغرب المرء مما يسمعه ويقرأه ويكرره العامة حتى تصبح الأكاذيب بحكم التكرار وعدم الخبرة لها كالحقائق والبديهيات... وكان لافتاً للنظر رفع صور عبد الناصر مثلاً فى ميدان التحرير وكأن عصره كان واحات للديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والانتصارات على كل الجبهات التى دخل فى معارك معها، وكأن مبارك لم يكن اختيار أو امتداد للمؤسسة العسكرية التى أسست لشرعية الحكم بعد يوليو، صحيح أن عبد الناصر كان رجلاً نظيف اليد غير فاسد، وصحيح أيضاً أن الفساد فى عصره كان من صناعة من حوله ولكن الصحيح أيضاً أن المحصلة النهائية كانت كما يعرف الجميع يوم رحل ..وطن محتل واقتصاد خرب وبنية اساسية مدمرة ، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. أقول هذا لأن رجلاً مثل أنور السادات أنجز الكثير لهذا البلد، ولم يرفع أحد صورة له ، بل أنهالت عليه الاتهامات وصلت إلى معايرته بلون بشرة أمه والخيانة والعمالة.. هذا مجرد نموذج لثنائيات المصريين فى الحكم على البشر بأما أو إما وياليت كان حكمهم صحيحاً، وأظن أن تلك آفة أهلنا وتحتاج إلى ثورة ثقافية، أقول هذا بمناسبة الحوار السفيه فى الأيام الماضية، بين البرادعى والجنزورى وبين التحرير والعباسية وبين المشير والمجهول ، وفى كل هذا لا نجد للعقل أى مكان فى الاختبار سوى أننا بحاجة إلى أطباء عيون لعلاج العور والحول فى رؤيتنا للبشر والمواقف. لرد الوسط مع الإخوان أمضى عصام سلطان نائب رئيس حزب الوسط مساء يوم الاثنين فى الاتصال بالفضائيات مندداً بالإخوان وسلوكهم فى الانتخابات متهما إياهم بأنهم فقدوا الأخلاق، وكان من الذكاء فى اختيار القنوات والمذيعين والإصرار على رواية القصة بنفس الانفعال والألفاظ وأنهم قاموا بتزوير الانتخابات فى بلدته دمياط، وكانت القنوات الفضائية قد اجتمعت لأول مرة قبل الانتخابات ب 48 ساعة على شن أعنف هجوم ضد الإسلاميين "إخوان وسلفييين" ، بينما تجاهلت تماماً قوائم الكنيسة العلنية لاختيار الكتلة، وبغض النظر عن أن سلطان هو خريج مدرسة الإخوان وأنه معلوم للجميع العداء الشديد بين حزب الوسط والإخوان وحالة اللدد الشديدة فى الخصومة بين سلطان تحديداً وأفراد الجماعة، فقد بدأ الأمر وكأن زمن «صفوت وانس» قد عاد، فى تصوير الإخوان على أنهم مصاصى دماء الأمة وأنهم الخطر المحيط ونسى سلطان والفضائيات أن هذا اللدد والهجوم غيرالمبرر يعطى الإخوان دعاية مجانية ويكسبهم قدراً من التعاطف، ثم أن خصوم حزب الوسط وسلطان تحديداً ليسوا الإخوان بل أنهم ربما جاءوا فى أخر الملف خصومة وعداء لسلطان ما يعنينى فى الأمر هو هذا التشتت والفرقة بين الإسلاميين .. صحيح أن اختلافهم رحمة، ولكنه فى هذا الحال مقتل لأن الخصوم المتربصين لا يستهدفون حزباً أو شخصاً ولكنهم يستهدفون الإسلام ذاته، والله أحمنى من أصدقائى أما أعدائى فأنا كفيل بهم أقول هذا ولابد من تلك اللافتة «لست من الإخوان ولا من الأنصار وإن كنت من المعجبين والمتعاطفين مع حركتهم واصرارهم ونضالهم للبقاء والاستمرار. سيدة الأهرام ذهبت وحيدة، كما عاشت غريبة مخلصة للمهنة فقط رحلت بهيرة مختار سيدة التحقيقات الصحفية فى الأهرام الأسبوع الماضى.. كنا ثمانية فى مسجد السيدة نفيسة وكانت هناك أربع زميلات عند المقبرة القريبة من السيدة .. رحلت فى هدوء وتجاهل مريب تلك التى ملأت الدنيا بهجة ومرحاً ومهنية ، والتى تخلت عن الزواج والأولاد وعقدت قرانها على الأهرام، صاحبة الفضل على جيل كامل من صحفى الأهرام، لم يجرؤ رئيس تحرير أو رئيس مجلس إدارة على الاستغناء عنها وظلت محتفظة بمكتبها فى الدور الرابع.. فى أيامها الأخيرة، ظلت بالمستشفى ورفضت أن يزورها أحد، رافضة أن تبدو ضعيفة تستحق الشفقة وهى التى كانت سنداً للجميع، كانت بألف رجل، قالت لا قاطعة لإبراهيم نافع عندما رأت الأهرام فى طريق الانحدار وطلبوا منها الإعتذار ولن أنسى يوم طلبت من نافع بألا يتعامل مع بهيرة بقسوة وكاد يبكى ويقول غير مصدق أن ترفع على قضية، حياة بهيرة مختار دراما إنسانية ومهنية تستحق التسجيل فقد صنعت من والدها مختار حسين بطل مصر فى كمال الأجسام ووالدتها الفنانة الاستعراضية خليطاً من القوة الناعمة، لم تخجل من اسرتها بل كانت شديدة الفخر بهذا المزيج وصنعت منه قيمة مضافة.. فى بدايات التسعينيات من القرن الماضى، كانت التحقيقات الصحفية على وشك الإنهيار حتى تولت مسئوليتة وفجرت بإدارتها المهنية كتيبة الأهرام فى التحقيقات الصحفية، الباسل وسلامة وأهداف البندارى ونبيل عمر،وأنا ومعنا فريق من الزملاء وكانت الصفحة الثانية مصدر إزعاج يومى للنظام وللصحف المنافسة وكانت قادرة على حماية زملائها من عسف الإدارة والنظام ولهذا لم يكتب لهذه التجربة المهنية الاستمرار طويلاً ولم تدم أكثر من ثلاث سنوات كأقصر من تولى رئاسة القسم، وخرجت متجردة من كل أسلحة المهنة ، وظلت تحارب الفساد والإدارة الظالمة والشائعات الرخيصة، وذهب كل أنصاف الموهبين فى غياهب النسيان وظلت بهيرة زميلة وشقيقة كبرى وأحياناً أماً تتابع زملاءها يومياً تسأل عنهم فى أفراحهم وأحزانهم وكم كانت المفاجأة، عندما علمت أن بهيرة التى اخلصت للمهنة وللمؤسسة كانت تعانى فى كبرياء وأن من تكفل بنفقات علاجها رجل أعمال محترم، وهكذا الحياة تعطى بلا حساب للغوغاء وأنصاف الموهوبين والعاهرات وتبخل على المبدعين والمخلصين والمهنيين، وبدلاً من تكريمهم فى أوجاعهم وأيامهم الأخيرة، تتركهم فريسة لمن يتفضل عليهم بالإحسان.. ياميت خسارة!