الاثنين يخيم علي القلق منذ الصباح ، ربما بسبب الأحداث التي تصاعدت بشكل غير متوقع منذ يوم الجمعة ورغم مرور (جمعة المطلب الواحد ) علي خير إلا أن الأمور تفاقمت بعدها ، قلقي العام علي وطني الذي يتخبط ولا يستقر وخوفي الشخصي علي زوجي و أولادي فهم هناك في التحرير ، يحوم القلق في قلبي ثم يستقر علي ابني عبد الله المهندس المدني حديث التخرج الذي يمتلأ إخلاصا ووطنية ، اتصل به فيرد علي ويطمأنني كعادته ( كله تمام ) ولكني لا أطمأن ويعود طائر الخوف الأسود يسد الطريق أمامي . ماذا يريد الشباب ؟ مثلا عبدالله ورفاقه ماذا ينقصهم ؟ ظاهريا لاشئ فهم من أسر طيبة ( أغلبها إسلامي ثوري ) تخرجوا من كليات القمة ولديهم فرصا ممتازة للمستقبل . هؤلاء الشباب جيل مختلف في سماته اختلافا حقيقيا عمن سبقهم ومختلف عن جيلنا تحديدا ، في جيلنا كانت التنظيمات السرية هي السبيل الوحيد أمام الشباب لمحاولة تغيير نظام الحكم وفشلت جميعها ، في جيلنا ظهر التمايز والاستقطاب الحاد بين الشباب فقد انقسم التيار الإسلامي وحده إلي ( إخوان سلفيين جماعة إسلامية جهاد تبليغ جمعية شرعية أنصار السنة ) هذا غير التيارات الأخري ( الليبرالي والماركسي والاشتراكي والناصري ) وقد اتخذت كل مجموعة من اللافتة التي رفعتها مبررا للتحزب والتعصب والصراع رغم أن الفروق الحقيقية بين أتباع كل تيار كانت لا تكاد تري وبمرور الوقت صارت اللافتة كيانا وجماعة لها رئيس وأتباع ومفكرين ومعارضين . وقد اختلف الشباب الحديث في أمرين جوهريين : أولا هم قد تأثروا بوسائل الاتصال الحديثة التي تربوا في ظلها ( الانترنت بصفة عامة وفيس بوك وتويتر بصفة خاصة ) فلقد تسربت إليهم عبرها ثقافة عالمية تسود الشباب وتقوم علي العلانية والشفافية وشجاعة مقاومة الفساد وقد أدت تلك الثقافة وباستخدام وسائل الاتصال إلي ثورة 25 يناير فقد كانت ثورة علانية يعلن منظموها مسبقا عن موعد النزول وخطواته والمفاجأة الكبري أنها نجحت . السمة الثانية من سمات هؤلاء الشباب أن تمايزهم ليس حادا وهو ما يحدث خلافا وشقاقا مع قادة التيارات التي ينتمون إليها ، فرغم انتماءاتهم المتعددة ( سلفيين إخوان ليبراليين وسطيين ) إلا أن نقاءهم الثوري وفطرتهم التي لم تلوثها المصالح والتعصب والتحزب تجعلهم متعاونين في تحقيق المصلحة العليا للوطن وليس مصلحة جماعاتهم الخاصة الضيقة . وللأسباب السابقة فهم أقدر الناس علي استعادة تجانس المجتمع المصري المفقودة ، عيبهم الوحيد أنهم بلا نظام وأن جهدهم ودماءهم المهدرة يحصد نتائجها في النهاية قوي سياسية مستهلكة . الثلاثاء في مستشفي القصر العيني الجديد ، عبد الله مصاب ، طلقة في ساقه أسقطته علي وجهه وتوالت طلقات الخرطوش عليه ، في جبهته وفوق عينه ، في ظهره وفخذه ، أجريت له جراحة تم استخراج ثماني بليات من ظهره وشظية من فخذه ، ولكن المهم ساقه بها كسر مضاعف من الرصاصة وتم تركيب شريحتين ، عبد الله الطيب النقي الذي لم يقل لي يوما كلمة (لا ) يرقد أمامي مسجي في سرير أبيض ولا يقوي علي الحركة ورغم ذلك فقد اطمأن قلبي بمجرد أن أفاق وكلمني ( لا تخشي شيئا يا أمي كله تمام ) لو يعرف الأبناء ماذا يفعلون في قلوب أمهاتهم ، من شعاع عينيه إلي عيني أشعر بالأمل في الحياة ، الحمد لله علي نجاته من موت محقق فقد طاشت أغلب الإصابات إلا ساقه . الأربعاء في غرفة عبد الله ، اليوم هو أفضل حالا وقد تماسكت أنا أيضا وخاصة بعد أن رأيت أهوال الإصابات من حوله ، توافد الشباب من زملاء التحرير لزيارته في عيونهم إصرار يثير الإعجاب والفزع في نفس الوقت ، هؤلاء الشباب قوة ضاربة لو أحسن استغلالها وتوظيفها لصالح الوطن وسواعدهم الفتية وقلوبهم المخلصة هي عماد التقدم في أي مجتمع ولكن كبتهم وحرمانهم من حقوقهم المشروعة في الحياة الكريمة وفي المشاركة يحولهم لقوة هدم عنيفة وعشوائية . هذه الموجة الثانية من الثورة هي ثورة شبابية خالصة تقول للمجتمع تأخرتم كثيرا في حل مشاكلنا واستيعابنا والاعتراف بوجودنا تنظرون إلينا كأننا ( شوية عيال ) لا حقوق لنا وتسدون طريق الأمل في المستقبل أمامنا ، لا نريد فقط حقوقنا في العمل والزواج والسكن ولكن حقنا الأساسي في المشاركة السياسية والمجتمعية وهذا الحق تحديدا لن نتنازل عنه . هؤلاء الشباب رغم إخلاصهم وحيويتهم ورغبتهم الحقيقية في النهضة بالمجتمع إلا أنهم ليست لديهم رؤية ناضجة متكاملة ولا تنظيم ولا أهداف واضحة ومحددة إنهم طاقة جبارة تم كبتها طويلا عبر عقود من الفساد والفشل السياسي وهي الآن تنفجر في وجه المجتمع وتحتاج لمن يساعد في بلورة أهدافها وتحديد خطواتها وتوجيه طاقتها في اتجاه مصلحة المجتمع . هؤلاء الشباب يريدون استعادة هوية مصرية معتدلة مخلصة تجمعهم جميعا ولذلك صاروا يتشككون في كل القوي والتيارات السياسية الموجودة علي الساحة بسبب تلونها بانتماءات تفرق ولا تجمع وتغير طبيعة المجتمع المصري المتسامحة المتجانسة إلي فرق و أحزاب كل حزب بما لديهم فرحون . هناك فجوة جيلية واضحة فالكبار في وادي والشباب في وادي آخر ، الكبار في الحقيقة راضين بالأمر الواقع ويلعبون علي معطياته لتحقيق أفضل استفادة ممكنة لأنفسهم أو جماعتهم أما الشباب فهم لا يقبلون بأنصاف الحلول و أرباعها ويريدون تغييرا جذريا ليس في معطيات الواقع فحسب ولكن أيضا في منظومة التفكير ، ومما يؤدي لتفاقم المشكلة افتقاد الوسيط الذي يقرب وجهات النظر وهو هنا النخبة الإعلامية ، الوجوه التي تظهر في الإعلام لم تتغير والكلام معاد وغير معبر ، بدايات الحل تأتي من تجديد النخبة والسماح لمن يفهم الوضع الجديد بأن يعبر عن الشباب . هناك اقتراحات كثيرة قابلة للتنفيذ الفوري تستوعب طاقة الشباب ولا تكلفنا شيئا ، ومنها استخدام المحليات ( جمعية تنمية المجتمع المحلي ) الموجودة فعليا في كل حي والتي كانت من تكايا الحزب الوطني المنحل ، يمكن تسليمها لمتطوعي الشباب في كل حي للعمل من خلالها في تنمية الحي وحل مشاكله البسيطة أولا ثم المتفاقمة وما يعجز عن حله يرفعه لمستوي أعلي وهي نفس البداية التي انطلقت منها نهضة تركيا الحديثة ونجحت نجاحا باهرا . السبت ليس معني الفجوة الجيلية أن يتصدر الشباب الحكم ويستغنون عن حكمة وخبرة الكبار وهم أنفسهم لا يفكرون في ذلك ومن المعروف أن للكبار من أهل العلم والخبرة دائما المكانة الأولي في أي مجتمع يقول تعالي في محكم آياته ( حتي إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ) سن الأربعين هي بداية النضج والحكمة ولكن في كل مجتمع ناهض جناحين جناح حكمة الكبار وخبرتهم والجناح الآخر حيوية الشباب وحماسهم وبهما معا يحلق الجميع في سماء التقدم والازدهار ، وهذا ما نتمناه ونأمل فيه بعد التغيير الوزاري الأخير وقد سمعت توا أن الدكتور كمال الجنزوري التقي ببعض شباب الثورة واستمع إلي مطالبهم واقتراحاتهم ، شباب مصر ينتفض كالمارد ويقدم يده الفتيه لبلده لكي تأخذ المكانة التي تستحقها بين الأمم هذه هي الحقيقة . المصريون في حالة مخاض ثوري حرج ولا يمكن أن يعرف أحد نتيجته ولكن التمسك بالأمل يجعلنا نتمني أن تكون النتيجة هي ولادة مصر الجديدة فتية ناهضة . [email protected]