أحاول في هذا المقال توضيح الفرق بين المدنية الإسلامية والليبرالية العلمانية، حيث تم تصدير تلك المفاهيم وعرضها عبر وسائل الإعلام، دون توضيح للقارئ بما تشير إليه تلك المفاهيم، والى أي مدى يجب على الناخب أن يعي ويدرك المعنى والمغزى الحقيقي من تلك المفاهيم. يشير الدكتور عبد الحميد أبو سليمان رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في كتابه المعنون ب "إشكالية الاستبداد والفساد" إلى أنه من المهم أن نضع الفرق بين المدنية الإسلامية والليبرالية العلمانية نصب أعيننا؛ لأن مفهوم العلمانية المطلق، بمعنى مجرد الفصل بين الحكم والسياسة، وبين الدين، يجعله مصطلحاً ومفهوماً مرفوضاً من الإسلاميين، وهو مليءٌ بخلفيات نفسية، تجعله يعني التغريب، والحجر على الإسلام، والدعوة إلى التحلل الأخلاقي. والحقيقة هي أن عقيدة الغرب الاجتماعية، ليست مجرد علمانية تعني الفصل بين السلطة والدين، ولكن العلمانية في الغرب، وخاصة في أوروبا، تعني أيضاً الليبرالية الاجتماعية، أياً كان التوجه الاقتصادي، رأسمالياً كان أم اشتراكياً أم شيوعياً. وترجع نشأة الليبرالية في أوربا إلى ردة فعل الشعوب الأوربية على استبداد الكنيسة وفسادها حين استولت على السلطة واستبدت وأفسدت الحكم، فثارت الشعوب الأوربية وأزاحت سلطة الكنيسة وإملاءات كهنتها المستبدة، وبذلك لم يبق للكنيسة ما تقدمه، لأن ما تبقى لديها من النصرانية ليس في جوهره إلا مجرد دعاوى هي أقرب إلى الخرافات، وهذا الأمر أوجد فراغاً في مجال العلاقات الاجتماعية، كان لابد من أن يرتد الفرد فيه إلى الجانب الطيني وإلى نزواته الحيوانية لتكون هي المرجعية لما يفعله الفرد، وليس لأي فرد أن يملي على سواه مفهوم الصواب والخطأ، الأمر الذي أزال كل أساس للالتزام الأخلاقي إلا ما كان من ذلك قائماً على أساسٍ مصلحيٍّ بحت، ففرطوا أكثر ما فرطوا في حق الأسرة، بكل ما جر ذلك إليه من آثار اجتماعية سيئة أقلقت الشعوب الغربية، دون أن تجد مرجعية أخلاقية روحية تخرجها منها وتردها إلى الفطرة الغائية التكاملية السوية في الخلق. أما الكنيسة فقد تُرِكَ لها حريةُ مزاولة شكلياتها وخرافاتها التي لم يعد لها أثر في توجيه حياة المجتمع، وأصبحت شعوب الغرب في حالة فراغ روحي أخلاقي لا يبقي لهم في حياتهم من هدف أو معنى سوى طلب اللذة والمتعة، وأن الفرد (الإنسان) هو المرجع، ومعنى هذا أن المرجعية الوحيدة لدى هذا الإنسان ومجتمعه في تقرير الصحيح والخطأ هي مرجعية ذاتية بحتة، ولا مجال فيها للتفرقة بين الفطري والمنحرف، أو الأخلاقي والبهيمي، وليصبح بذلك الماديون شعوباً من اللا أدريين، وهذا لا يعني أنهم ملحدون منكرون، ولكن هذا يعني أنهم ليس لديهم مرجعية هداية إلهية دينية وعقلية فطرية يلتزمون ثوابتها ويؤمنون بقيمها ومبادئها الفطرية الأخلاقية، ولذلك هم في لهاث تيه، حيث السلوكيات تحركها دوافع رغبات وانحرافات بهيمية. وحالة "اللا أدرية" هي السبب في رفض شعوب أوربا أن يُنَصَّ في دستور اتحادها ووثائقه على أن ثقافتها ثقافة مسيحية. فحالة أوربا ليست مجرد علمانية، ولكنها "علمانية ليبرالية"، والليبرالية الاجتماعية هي المسئولة اليوم في المقام الأول عن التدهور الروحي والأخلاقي، وعن انهيار الأسرة وتفشي العنف الاجتماعي المتزايد في بلاد الغرب. أما "المدنية الإسلامية" بالتعبير الذي يجب أن تدعى به هي "علمانية" روحية أخلاقية؛ لأنها وإن كان المقصود بها إبعاد يد السلطة عن التعليم الديني وعن نشاط الدعوة، إلا أن الإسلام له بعده الروحي وقيمه الأخلاقية التي تخالط نفسية الإنسان المسلم، وبها يستشعر الالتزام في الحياة وفيما بعد الموت، ولذلك فالتعبير السليم عن الحالة الإسلامية أنها "مدنية إسلامية". وهذا المحتوى الروحي والأخلاقي الإسلامي الذي يدين به الإنسان المسلم، برغم كل ما خالط فكره ومناهج وسائله التربوية من تشويه، أحدث فصاماً بين العقيدة والسلوك، إلا أن التزامه النفسي الروحي يجعله في حراك مستمر لتفعيله في واقع حياته، وهذا الدافع النفسي الفطري العقلي الروحي هو طوق النجاة للأمة والإنسانية ليقودها مجدداً إلى بر السلام. هذا المحتوى هو من أهم العناصر التي تجعل أوربا والغرب لا يرحبون بالحضور الإسلامي في مجتمعاتهم، ولا يرحبون بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، برغم أنها أخذت بجميع الوسائل الديمقراطية، وحققت أداءً اقتصادياً رائعاً، وحققت بالفعل الفصل بين الحكم والسلطة والبرامج السياسية وبين الدين والنشاط الدعوي الديني وما يمثله من عقيدة روحية وخلقية وجعلته متروكاً لعمل مؤسسات الدعوة ومؤسساتها وهيئاتها الأهلية، أي أصبحت بمفهومهم أنها دولة "علمانية" "ديمقراطية"، والسبب في ذلك أنهم يعلمون أن الفصل بين السلطة والدعوة الدينية أو ما يدعونه في تجربتهم "بالعلمانية" لا تعني عند المسلم قيماً اجتماعية ليبرالية، بل هي قيمٌ روحية أخلاقية إسلامية، يخشون مما تحدثه من خلخلة وتأثير غير مرغوب فيه من قِبَلِ كهنة التحلل والانفلات الحيواني ومصالحهم التجارية في تجارة الرذائل الأخلاقية، وإدمان مجتمعاتهم عليها. وهكذا، فإن المصطلح الصحيح للمجتمع الإسلامي ولنظام حكمه هو "المدنية الإسلامية"؛ حيث يعني أن الفصل بين الدعوة والتعليم الديني، وبين السلطة والحكم، يقصد منها أن لا يتمكن رجال السلطة من تشويه مبادئ الدين واستغلاله للسيطرة على جمهور الأمة لمصلحة الحكم والسلطة، واحتكار السلطة والثروة وتفشي الاستبداد والفساد. [email protected]