ما إن أعلنت لجنة تقصي الحقائق المستقلة حول اضطرابات البحرين نتائج تحقيقاتها في 23 نوفمبر ، إلا وأكد كثيرون أن الرابح الأكبر هو استقرار المملكة أولا ، وإيران ثانيا . فاللجنة اتهمت السلطات الأمنية باستخدام القوة المفرطة وغير المبررة ضد المحتجين , بهدف "بث الرعب" ، وأوصت باتخاذ إجراءات تشريعية تحول دون ممارسات التحريض والعنف الطائفي. وبالنظر إلى أن المعارضة البحرينية كان ساورها منذ البداية شكوك تجاه استقلالية اللجنة ، فقد جاءت توصياتها لتشكل مفاجأة سارة لها ، خاصة وأنها أشارت بوضوح إلى وقوع انتهاكات ، وهو الأمر الذي من شأنه يعجل بمعالجة الأخطاء التي تتسبب من حين لآخر في إثارة أعمال عنف في المملكة . فمعروف أن البحرين طالما شهدت توترات طائفية بلغت ذروتها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي ، إلا أنه منذ تولي الملك حمد بن عيسى آل خليفة مقاليد الحكم عام 1999 وقيامه بإطلاق مشروعه الإصلاحي الذي أفرج بموجبه عن جميع الموقوفين وسمح للمعارضين في الخارج بالعودة إلى البلاد تنفس الجميع الصعداء وتراجعت بالفعل الاضطرابات الطائفية في المملكة . ورغم أن الأمور كانت تتسم بالهدوء ، إلا أنه منذ انتخابات أكتوبر العام الماضي وما صاحبها من اتهامات بالسعي لتهميش المعارضة الشيعية ، عاد التوتر مجددا وسرعان ما زادت حدته بعد تفجر ثورات الربيع العربي . ويبدو أن غياب الحوار الجدي بين الحكومة والمعارضة ساهم في تأجيج الوضع ، حيث اتهمت المعارضة الشيعية الحكومة بتضييق الخناق على الشيعة في إطار ترتيبات إقليمية جديدة تشرف عليها أمريكا وتستهدف إيران بصفة خاصة وشيعة المنطقة بصفة عامة ، زاعمة أن الحكومة سعت لتجنيس آلاف الوافدين السنة لتغيير التركيبة السكانية في البحرين . وفي المقابل ، وجهت اتهامات حكومية للمعارضة الشيعية بتنفيذ أجندة إيرانية في البحرين وأن السلطات ضاقت ذرعا بممارساتها . وأمام ما سبق , كانت الأوضاع في طريقها للتصعيد أكثر وأكثر لولا تدخل الملك حمد وكعادته في الوقت المناسب لإنقاذ الوضع عبر تشكيل لجنة تقصي الحقائق والتي جاءت نتائجها حيادية تماما على عكس مخاوف المعارضة . بل إن تصريحات الملك حمد حول تقرير اللجنة أكدت مجددا أنه حكم عدل بين مواطني بلاده وأنه لا يفرق بين سني وشيعي ، بل إنه طمأن أهالي ضحايا الاضطرابات بأنه لن يفلت أحد من العقاب أيا كان منصبه . وكان الملك حمد قال في كلمة ألقاها بمناسبة الكشف عن تقرير لجنة تقصي الحقائق :" إن هذا التقرير يمنح بلادنا فرصة تاريخية للتعامل مع أهم المسائل وأشدها إلحاحا". وأضاف " المسئولون الذين لم يقوموا بواجبهم سيكونون عرضة للمحاسبة والاستبدال" ، مشددا على أنه يجب إصلاح القوانين لكي تتماشى مع المعايير الدولية. وتقدم الملك بالشكر الجزيل لرئيس وأعضاء اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق وموظفيها على جهودهم الجليلة , وخاطبهم قائلا :" نقدر كثيرا ما قمتم به لما لهذا التقرير من قيمة عظيمة ومكانة عالية في نفوسنا، وإن شعب البحرين باستفادته من مرئياتكم وتوصياتكم سيجعل من هذا اليوم يوما تاريخيا في حياة الوطن". ويبدو أن التصريحات السابقة لا تخلو من مغزى واضح وهو أن الملك سيتخذ قرارات حاسمة حول إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية تشمل جميع مواطني المملكة سواء كانوا سنة أو شيعة ، خاصة وأنه اتضح أن الاحتجاجات مرتبطة بالأساس بأوضاع داخلية أكثر منها بتحريض من الخارج . وبالنسبة لإيران ، فإنه أمامها فرصة ذهبية لتحسين علاقاتها مع أشقائها وجيرانها في دول الخليج العربية خاصة بعدما ظهرت براءتها من أحداث البحرين . ويبدو أن التصريحات غير المسئولة التي تخرج من بعض المسئولين الإيرانيين ضد البحرين من آن لآخر هي التي تسببت في اتهامها بالتورط في الاضطرابات الأخيرة ، ولعل هذا ما ظهر واضحا في تصريحات الملك حمد . فقد علق الملك على ما توصل إليه التقرير عن عدم وجود أدلة لضلوع إيران في أحداث البحرين ، قائلا :" إن حكومة البحرين ليست في وضع يمكنها من تقديم أدلة على الصلات بين إيران وأحداث معينة في بلدنا هذا العام". لكن الملك ندد ب"الهجمة الإعلامية" من قبل قنوات إيرانية ، قائلا :" هذه الهجمة حقيقة موضوعية يلاحظها كل من يفهم اللغة العربية، وهي تشكل تحديا مباشرا ليس فقط لاستقرار وسيادة وطننا فحسب بل تهديدا لأمن واستقرار كافة دول مجلس التعاون". وأعرب الملك حمد عن الأمل في أن "تعيد القيادة الإيرانية النظر في مواقفها بترك السياسات التي تؤدي إلى العداء والفرقة". ويبدو أن إيران أمامها فرصة ذهبية لإجهاض المخططات الصهيونية ضدها عبر التجاوب مع دعوة الملك حمد بالتصدي للتصريحات غير المسئولة التي يطلقها بعض مسئوليها حول أن "البحرين" إحدى محافظاتها ، بالإضافة إلى حل قضية الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها ، وطمأنة دول الخليج العربية حول سلمية برنامجها النووي. والخلاصة أن تقرير لجنة تقصي الحقائق جاء ليكشف المستور حول أحداث البحرين ، وهو الأمر الذي من شأنه أن يساعد المملكة على استعادة الاستقرار في القريب العاجل ، بل وقد يدفع دول الخليج العربية لإعادة النظر في شكوكها تجاه إيران في حال استغل نجاد فرصة عدم الإدانة في التقرير وسارع لإثبات حسن النوايا عمليا وليس بالأقوال تجاه جيرانه .