فوجئ الجميع أمس بقرار الإفراج عن محمد سلطان الذي حكم عليه قبل أسبوع تقريبا بالسجن المؤبد على خلفية تظاهره في ميدان رابعة أيام الغضب التي أعقبت إطاحة الرئيس الأسبق محمد مرسي ، وفي اليوم نفسه كانت الطائرة تحمل محمد سلطان من مطار القاهرة إلى مطار فرجينيا في الولاياتالمتحدةالأمريكية ، وأصدر النائب العام بيانا أوضح فيه أن اطلاق سراح سلطان الذي يحمل الجنسية الأمريكية جاء بعد تنازله عن الجنسية المصرية ، فتم إطلاق سراحه وفق نص القانون رقم 140 لسنة 2014 والذى يجيز لرئيس الجمهورية الموافقة على تسليم المتهمين أو المحكوم عليهم من غير المصريين إلى دولهم ، متى اقتضت مصلحة الدولة العليا ذلك، وبناء على عرض يُقدمه النائب العام وبعد موافقة مجلس الوزراء ، وبطبيعة الحال ، مصلحة الدولة العليا المقصود بها حصريا مصلحة النظام السياسي أو رئيس الجمهورية ، وهو غير مطالب بتوضيحها للشعب طبعا ، فهو لا يسأل عما يفعل ، وهل نحن سنفهم أكثر منه في مصالح الوطن العليا ولا حتى السفلى ، وكذلك فإن مسألة أن هذا الأمر يكون بطلب أو عرض من "النائب العام" بنص المادة هو من البلاغيات والتحسينات البديعية في كلام العرب ، لأن الأمر مفتتحه ومنتهاه في رئاسة الجمهورية . بطبيعة الحال لا يمكن أن تلوم هذا الشاب المصري على أنه اشترى حريته ببيع جنسيته القانونية ، فأي إنسان إذا خيرته بين أن يقضي بقية عمره في زنزانة خربة وهو مصري أو أن يعيش بقية حياته حرا طليقا في بلاد الله الواسعة وهو لا يحمل تلك الجنسية ، فإن الخيار الإنساني هنا محسوم ، ومحمد سلطان محكوم حاليا بالسجن المؤبد ، خاصة وأن الوطن ليس مجرد ورق وأختام ، وإنما هوية وتاريخ ومشاعر متراكمة وذكريات ختمت بصمتها في الضمير الذي لا يمحى وجذور ممتدة عبر الآباء والأجداد ، وقد ينزعون منك الورق ، ويمحون الأختام ، لكنهم لن يمحو من الحقيقة والواقع أنك مصري ، لا أحد يمكنه أخلاقيا وإنسانيا أن يلوم الشاب محمد سلطان ، وأي محاولة لحرف الكلام بهذه الوجهة هي فقط محاولة للهروب من الفضيحة "الوطنية" والعار الذي يلحق النظام الحالي وكل من يدافع عن هذا القانون الفاجر الذي يساعد المصري على بيع جنسيته لشراء حريته ، ويشترط عليه إن أراد أن يعيش حرا كريما أن يخرج من جلده وهويته ويبحث له عن وطن آخر وبلاد أخرى وجنسية أخرى ، هذا عار لن ينساه التاريخ بسهولة ، وسيظل لعنة تطارد من تورطوا فيها لعقود طويلة مقبلة . وأصل هذا القانون المدهش ، أن بعض الأجانب كانوا ضحية "الهوجة" التي أعقبت إطاحة مرسي حيث نشطت جهود محمومة لمطاردة الإخوان وأنصار مرسي وأي إعلامي أو سياسي أو ناشط لا يعمل وفق البوصلة المطلوبة ويدعم تلك الهوجة ، وكان من ضحايا تلك الاستباحة الإعلامي الاسترالي "بتر جريسته" مراسل قناة الجزيرة ، والذي ظل في السجن قرابة عام ثم حكم عليه بالسجن عشرة أعوام ، وكان "المحنك" الدستوري المستشار عدلي منصور قد وعد أسرته بأن يعيده إلى أحضانهم سريعا ويسعدوا بجواره ، وقد وفى بوعده ، وتم تفصيل "تشريع" خاص لإطلاق سراح "جريسته" مهما كان وضعه أمام القضاء وترحيله إلى بلاده ، فكان القانون 140 لسنة 2014 ، الذي يتيح لرئيس الجمهورية الحق في تسليم أي متهم لبلد آخر قبل محاكمته أو بعد محاكمته أو أثناء محاكمته ، ونزع ولاية القضاء عليه تماما وشل أي يد قانونية في محاكمته ، بشرط أن لا يحمل الجنسية المصرية ، كده عيني عينك ، وبموجب هذا التشريع تم إطلاق المواطن الاسترالي وعاد إلى بلاده معززا مكرما ، وعلى طريقه سار مراسل الجزيرة محمد فهمي ، فتنازل عن جنسيته لكي يطلقوا سراحه ، ثم أتت واقعة محمد سلطان ، الذي يحمل الجنسية الأمريكية والمصرية ، فطلبوا منه "التضحية" بجنسيته المصرية ، من أجل حصوله على الحرية ، وواضح أن أطرافا أمريكية وأخرى مصرية تدخلت في الموضوع ووصلوا إلى اتفاق انتهى بتنازله عن الجنسية المصرية ليتم منحه حريته ، ويعود إلى أمريكا معززا مكرما ويستقبل هناك استقبال المنتصرين . محمد حصل على حريته بعد نضال طويل ومرير بإعلانه الإضراب عن الطعام لأشهر طويلة تجاوزت العام الكامل وهو ما أرهق الجهاز الأمني والقضائي وسبب متاعب وإحراجات دولية كثيرة ، ومن هنا اعتبر كثيرون أن محمد سلطان انتصر على سجانيه في تلك "الملحمة" ، ولكن بعيدا عن الانتصار والهزيمة ، فإن ذلك لا ينسينا أننا أمام كارثة وطنية كبرى ، ونظام سياسي فقد رشده ، ودولة تقنع مواطنيها بشكل مباشر أو غير مباشر بأن جنسيتهم المصرية شبهة ، وباب ضرر خطير لهم ، وأن أهم ضمانة لمن يعيش في هذا البلد للنجاة من الاستباحة والقمع والسجون وحبال المشانق هي أن لا يحمل جنسية مصر وأن يبحث عن جنسية أي بلد آخر ، يحدث ذلك وسط زفة إعلاميه رسمية ومواليه تقول للشباب المصري بالفم الملآن وعلى الهواء مباشرة : لا مستقبل لكم هنا ، سافروا وابحثوا عن مستقبلكم في بلاد أخرى ، .. هذا زمان العار بامتياز .