لعل السؤال الذي تنبغي الإجابة عليه ابتداءً هو ذلك المتعلق بالدوافع التي أنتجت المبادرة العربية الرامية إلى حل المعضلة السورية، أعني هل جاءت المبادرة من موقع الحرص على الشعب السوري أم من موقع الحرص على النظام، بخاصة هرمه الأعلى ممثلًا في الرئيس بشار الأسد؟! من الواضح أن المبادرة قد جاءت ابتداءً نتاج تفاهم قطري إيراني لم يكن للدول العربية المحورية الأخرى، بخاصة السعودية ودول الخليج أية اعتراضات عليه، بل ربما أيدته على تفاوت في الحماسة بين هذه وتلك، وخلاصة ذلك التفاهم هو أن يحتفظ الرئيس بكامل صلاحياته التقليدية، فيما يمكن توفير أجواء تدافع سياسي تحت ولايته لا تغير من طبيعة النظام، وإن منحته صفة التعددية، أي أننا إزاء إعادة إنتاج لديمقراطية الديكور التي كانت متوفرة في مصر وعدد من الدول العربية الأخرى، والنتيجة أن بشار الأسد في الطبعة الجديدة سيكون مثل حسني مبارك قبل خلعه، رئيسًا ومن تحته منافسات حزبية يحدد النظام سقفها وطبيعتها. صحيحٌ أن أجواء ما بعد الربيع العربي لن تسمح بتكرار التجربة الماضية، مما يعني إمكانية توفير لعبة ديمقراطية أكثر إقناعًا، لكن صلاحيات الرئيس وسيطرته على الجيش والمؤسسات الأمنية لن تُمس، ومن يسيطر على الجيش والمؤسسة الأمنية سيكون هو الحاكم الفعلي، مهما كان التدافع السياسي تحته. ولكن إذا تفهمنا موقف إيران، وربما قطر التي لا تريد إغضاب جارتها القوية، لاسيما أنها متهمة بتصعيد الاحتجاجات الشعبية في سوريا عبر (الجزيرة)، فكيف يمكن النظر إلى مواقف الدول الأخرى، بخاصة الخليجية التي تدرك أن إسقاط النظام السوري سيصبُّ في صالح صراعها مع النفوذ الإيراني. الجواب يتلخص في الخوف من استمرار مسلسل الثورات، وإمكانية تمدده ليشمل الجميع، ولو بصيغة مختلفة في الدول غير الجمهورية، وقد تضاف مخاوف أخرى تتعلق بطبيعة التدافع الداخلي في سوريا، وإمكانية أن يستمر على نحو يهدد الأمن في المنطقة، وربما يفضي في بعض سيناريوهاته إلى التقسيم، وتبدو هذه قناعة دول أخرى على ودٍّ مع النظام، مثل السودان والجزائر، وربما لبنان، في ظل وقوعه تحت سيطرة حزب الله وحلفائه. نأتي إلى السؤال أعلاه، وهو لماذا يصعب على النظام تنفيذ بنود المبادرة بأهم تفاصيلها، أعني إخراج الجيش من الشوارع ووقف العنف والإفراج عن المعتقلين؟ والجواب بكل بساطة يتعلق بمآل الأحداث في حال الموافقة على شيء كهذا، أعني نزول الناس بالملايين إلى الشوارع وتدحرج الأوضاع نحو مسار تستحيل السيطرة عليه من دون إغراق البلد في الدماء، بل إن ذلك لن يؤدي أيضًا إلى حماية النظام، حتى لو ذهبت الأوضاع نحو الحرب الأهلية التي سيأتيها مدد السلاح والمأوى (للمعارضة بالطبع) من دول الجوار الجاهزة لذلك، لاعتبارات شتى (ربما باستثناء العراق المشكوك في قدرته على ضبط حدوده مع سوريا). لقد أدت سياسة القتل بالتقسيط (وعلى نحو يومي)، مع الاعتقالات المستمرة ونشر الجيش في المدن والأرياف، إلى تخويف الناس والحيلولة دون خروج كثير منهم إلى الشوارع، وإذا ما توقف ذلك كله، فإن الناس الذين لا يؤمنون بغير إسقاط النظام لن يتوقفوا قبل أن يسقطوه بالفعل. والحال أن موافقة المجلس الوطني الضمنية على المبادرة العربية، مع أننا لم نسمع لهم رأيًّا واحدًا، لم تأت إلا في ظل القناعة بعدم إمكانية تنفيذ النظام لبنودها الأولية، فضلًا عن الجزء التالي المتعلق بالترتيبات السياسية الخاصة بالدستور والتعددية وما شابه ذلك من حديث الإصلاح. هناك بالتأكيد سؤال آخر يتعلق بموقف العرب إياهم من استمرار القتل، وهل سيترتب على ذلك موقف جديد من قبلهم، أم سيتواصل العمل على توفير طوق نجاة للرجل يتمثل في الضغط على المعارضة من أجل الركوع أمام بشار وتجاوز نبض الشارع؟ هذا ما سنعرفه خلال الأيام والأسابيع المقبلة. سيعيد البعض علينا هنا حكاية المقاومة والممانعة، ويمعن تشريحًا في المجلس الوطني وتحالفاته، إلى غير ذلك من مماحكات جوهرها الدفاع عن النظام وإهانة شعبه، أما نحن فلا يسعنا غير الثقة في الشعب السوري، لأن من يُسقط نظامًا أمنيًا مثل نظام بشار الأسد لن يعجز عن إسقاط سواه إذا خالف قناعاته في العلاقة مع الغرب والتعاطي مع الكيان الصهيوني. نقول ذلك لأننا نحسن الظن بالشعوب وليس الأنظمة، مهما كانت شعاراتها، فضلًا عن أن تكون الأسئلة حول سلوكها (بل وقابليتها لعقد الصفقات) كثيرة وكبيرة في آن (مقابلة رامي مخلوف مع نيويورك تايمز ومقابلة الأسد مع الصندي تلغراف تأكيد على ذلك). المصدر: الإسلام اليوم