عرفت مصر العديد من المجددين خلال القرن الرابع عشر الهجرى، وكان معظم هؤلاء من تلامذة الإمام محمد عبده واتباعه، الذى دعا إلى التجديد والإجتهاد والتحرر من الجمود، وينبغى علينا أن نلقى الضوء على هؤلاء المجددين ونشر أعمالهم وإتاحتها للجميع لنكمل ما المسيرة ونبتدى من ممن انتهى إليه هؤلاء، من هؤلاء الإمام الأكبر الراحل محمد مصطفى المراغى ، فهو التلميذ الوفى للإمام محمد عبده، وكان يعده بمثابه ابنه، وتولاه بالرعاية الفكرية، لأنه تنبه إلى نبوغه المبكر ..والإمام المراغى قيمة علمية ودينية كبيرة يستحق الاحتفاء، فقد جدد فى الفقه الإسلامى، وفى القضاء، وخلال توليه مشيخة الأزهر، وكانت له العديد من المواقف المشرفة والمشهودة، فهو لم يداهن الحكام، بل لقد استقال من مشيخته الأولى احتجاجاً على تدخل الملك فؤاد فى شئون الأزهر ... كان معتداً بنفسه وبإسلامه، يريد التمكين لدينه فى أرض مصر، لذا فقد حقدت عليه الأحزاب العلمانية، وكادت له ، وأرادت أن تعيقه عن تحقيق مشروعه .وعندما تقارن بينه وبين شيوخ اليوم الذين انبطحوا تماما ولم يهمهم هموم المسلمين بقدر ما يهمهم جلوسهم على الكراسى التى وضعوا عليها بالقوة الجبرية ...لا وجه للمقارنة ... ولد الشيخ محمد مصطفى المراغى فى التاسع من مارس سنة 1881م فى مدينة المراغة بمحافظة سوهاج، كان والده من أعيان المدينة ويسعى فى الخير يقصده الناس لقضاء حوائجهم، وهذه الأخلاق الكريمة ورثها عنه كل أولاده الذين صاروا من كبار العلماء، منهم: الشيخ أحمد مصطفى المراغى، والشيخ عبدالعزير المراغى، والشيخ أبوالوفا المراغى، وكلهم متميز ومشتهر، أثروا جميعاً الحياة الفكرية بالمؤلفات القيمة ... حفظ محمد المراغى القرآن فى صغره، وتلقى بعض العلوم والمتون على والده، ثم يذهب إلى الأزهر الشريف، ويعجب بفكر الإمام محمد عبده الذى أدخل للأزهر العلوم الفكرية والأدبية، وانتفع بدروسه فى التاريخ والإجتماع والسياسة، وتوثقت صلته به، وصار على نهجه فى الإصلاح والتجديد فيما بعد. فلقد تتلمذ على محاضرات الأستاذ الإمام في تفسير القرآن، وتأثر بمنهجه في التوحيد وما يراه تنقية للعقائد الإسلامية من ترف المتكلمين القدامى، وكذلك الحال في البلاغة واللغة العربية عرفت نقلة في اسلوب تقديمها في وقته، كذلك تلقى المراغى العلوم على الشيخ على الصالحى وكان من شباب علماء الأزهر المستنرين المحققين، ودرس عليه علوم العربية وتأثر بأسلوبه فى التوضيح والتبيين ، وكان خلال فترة الطلب بالأزهر له رفقة من طلاب الأزهر النابهين، يواصلون قراءة الدروس والكتب المقررة قبل إلقاء المدرسين لها، كما كانوا لا يكتفون بدراسة الكتب المقررة ، بل كانوا يقبلون على مصادر المعرفة وشتى العلوم ينهلون منها.
تخرج الشيخ المراغى بعد حصوله على العالمية مبكراً عام 1924 بتشجيع من استاذه محمد عبده الذى ناقشه فيها .. نالها وهو فى الرابعة والعشرين من عمره، وهى سن صغيرة بالنسبة لعلماء الأزهر الذين كانوا يحصلون عليها فى الثلاثينيات والأربعينيات من العمر، والكثير منهم يخفق فى الحصول عليها بعدما يقضى فى الأزهر عمراً طويلاً ، وفى نفس الوقت الذى تخرج فيه، رشحه الأستاذ محمد عبده ليكون قاضياً بمدينة دنقلة بالسودان، فاستمر فى عمله مدة ثلاثة سنوات، ثم قدم استقالته بسبب خلافه المستمر مع الحاكم العام الانجليزى للسودان ، ورجع ثانية إلى السودان قاضياً لقضاة السودان، وصمم أن يصدر خديو مصر المسلم أمراً بذلك، لأنه ولى أمره الشرعى، أما الانجليز فهم غزاة مغتصبون، لم يرض أن يعمل بقرار منهم، وكان له فى السودان بعض المواقف المشرفة والجريئة، حيث أنه لما أرادت حكومة السودان تعديل لائحة المحاكم الشرعية بالسودان ، تمسك المراغى بأن من سلطته أن يختار للقضاة الآراء الفقهية التى يحكمون بها، وأبى السكرتير القضائى قبول هذا، وأصر الشيخ على رأيه ، واحتكما إلى الحاكم العام ،فنصر الشيخ على خصمه ، ونفذ له ما أراد، فالشيخ كان يعمل على ترقية القضاء بالسودان ، فقد أشرف على القسم الشرعى من "كلية غوردون" ، وزوده بأساتذة من العلماء المصريين الممتازين من الأزهر ودار العلوم ، وبهذا نهض القضاء وكرامة القضاة.
عاد الشيخ من السودان عام 1919 بعد أن مكث فيه منذ عام 1908، وتولى فى مصر بعض المناصب القضائية منها: رئيس التفتيش بوزارة الحقانية (العدل)، ورئيس محكمة مصر الشرعية الكلية، ورئيس المحكمة الشرعية العليا، وكان مثالاً للنزاهة والشرف وحاول أحد الثراة أن يرشيه وعرض عليه مبلغاً كبيراً من المال حتى يحكم فى قضية على هواه، ولكن الرجل رفض فى إباء وشمم ، حتى سلط عليه هذا الثرى الأحمق بمن يتعرض له عند دخوله المحكمة ورشه بماء النار، إلا أن الله سلم ، ولم يتعرض الرجل بسوء سوى فى رقبته وبعض أجراء من جسمه، وخلال توليه هذه المناصب قام الرجل بعدة إصلاحات هامة ومنها إصداره قانون الأحوال الشخصية فى سنة 1920. تولى الشيخ المراغى مشيخة الأزهر مرتين، الأولى: فى 28 مايو 1928، وقد كان الحماس يسربله، وقد آن الأوان أن ترى مقترحاته ومقترحات أستاذه الإمام محمد عبده النور وأن تضع قيد التنفيذ ، فألف لجاناً برئاسته لدراسة قوانين الأزهر ومناهج الدراسة فيه، وعمل على تنقيح هذه القوانين والمناهج، وأهتم بالدراسات العليا، فاقترح إنشاء ثلاثة كليات عليا تتخصص الأولى فى دراسة العلوم العربية، والثانية فى علوم الشريعة، والثالثة فى أصول الدين، وتم تنفيذ ذلك فى عهد خلفه الإمام الأكبر محمد الأحمدى الظواهرى، وقد كانت للمراغى آمالاً كبرى يسعى لتحقيقها فى تطوير الأزهر، ولكن العقبات وقفت فى طريقه وحالت بينه وبين تنفيذ هذه الآمال، فقدم استقالته فى 10أكتوبر سنة 1929، ولم يخلد إلى الراحة والسكون ، فقضى أكثر من خمس سنوات فى بيته على البحث والدراسة ومراجعة آراء المصلحين من قبله، وبخاصة آراء أستاذه محمد عبده، كما راجع الأسس التى وضعها للإصلاح فى عهد مشيخته الأولى، فلما عاد للمشيخة مرة أخرى فى أبريل سنة 1935، مؤيداً من العلماء والطلبة والحكومة ، باشر تنفيذ ما استقر عليه رأيه من وجوه الإصلاح، فاصدر القانون رقم 26لسنة 1936، وقد ألغى به القانونين الصادرين سنة 1923، وفى سنة 1930... ومن الأعمال الجليلة التى قام بها أثناء توليه المسئولية هى: إنشاء لجنة الفتوى، وإنشاء قسم الوعظ والإرشاد، وتطوير هيئة كبار العلماء وتغيير اسمها إلى (جماعة كبار العلماء) وعددها ثلاثون عضواً من خيرة العلماء واشترط للعضوية أن يقدم العضو الجديد بحثاً مبتكراً فيه التجديد ، وقد اشتهر أمر هذه الجماعة على مستوى العالم الإسلامى، وعند قانون تطوير الأزهر سنة 1961 تم إلغائها وحل محلها إنشاء مجمع البحوث الإسلامية، وبعد الثورة العظيمة فى يناير 2011، عادت الجماعة مرة وننتظر منها إعادة الأزهر إلى سابق عهده من المجد.
من هذه المواقف المشرفة موقفه من الحرب العالمية الثانية، حيث رفض الإمام المراغي فكرة اشتراك مصر في هذه الحرب سواء بالتحالف أو التعاون مع الإنجليز، أو التعاون مع الألمان للتخلص من الاحتلال البريطاني، كما أعلن الإمام المراغي موقفه صراحة بقوله: "إن مصر لا ناقة لها ولا جمل في هذه الحرب، وإن المعسكرين المتحاربين لا يمتان لمصر بأي صلة...". وقد أحدثت كلة الإمام المراغي ضجة كبيرة هزت الحكومة المصرية، وأقلقت الحكومة الإنجليزية، والتي طلبت من الحكومة المصرية إصدار بيان حول موقف الإمام المراغي باعتباره شيخ الأزهر من هذه الحرب ومن الحكومة الإنجليزية.
فما كان من رئيس الوزراء المصري في ذلك الوقت حسين سري باشا إلا أن قام بالاتصال بالشيخ المراغي، وخاطبه بلهجة حادة طالبا منه أن يحيطه علما بأي شيئا يريد أن يقوله فيما بعد حتى لا يتسبب في إحراج الحكومة المصرية. فرد عليه الإمام المراغي بعزة المؤمن الذي لا يخاف إلا الله قائلا : "أمثلك يهدد شيخ الأزهر؟" وشيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة، ولو شئت لارتقيت منبر مسجد الحسين، وأثرت عليك الرأي العام، ولو فعلت ذلك لوجدت نفسك على الفور بين عامة الشعب". وبعد فترة هدأت العاصفة لأن الإنجليز أرادوا أن يتفادوا الصراع مع الشيخ المراغي حتى لا يثير الرأي العام في مصر ضد القوات البريطانية المحتلة في مصر.وقد تزعم الإمام المراغي حملة لجمع تبرعات في مصر لصالح المجاهدين في السودان الذين يقاومون الاحتلال البريطاني، وبلغت حصيلة التبرعات ستة آلاف جنيه مصري آنذاك تقدر اليوم بحوالي ستة ملايين جنيه مصري.
وقد وهنت صحة الشيخ محمد مصطفى المراغى فى أواخر حياته ودخل مستشفى المواساة ، وفى اثناء مرضه يزوره الملك فاروق يحاول استصدار فتوى منه تحرم زواج الملكة فريدة بعد طلاقها منه، فيرد عليه قائلاً :"إن المراغى لا يستطيع تحريم ما أحله الله" ، وقد لقى ربه ليلة الأربعاء 14رمضان سنة 1364ه الموافق (22اغسطس 1945) رحمه الله رحمة واسعة