خطير جداً ما حدث فى ماسبيرو يوم الأحد الماضى، والأخطر منه عدم الإدراك الصحيح لدلالاته ولما يتعين القيام به لاحتواء تبعاته وتصفية آثاره، فقد وقع ما كنا نتصوره من قبل أمراً مستحيلاً: صدام بين الجيش ومتظاهرين أقباط راح ضحيته 24 قتيلاً و217 مصاباً، جميعهم من الأقباط، حسب تقديرات وزارة الصحة، بخلاف الضحايا من الجيش، لم يتم الإعلان عن عددهم. وقد أدى هذا الحدث الدامى، شئنا أم أبينا، إلى وضع الجيش فى بؤرة اتهام مزدوج: استخدام مفرط للقوة ضد مواطنين عزل أثناء ممارستهم حقهم الطبيعى فى التظاهر السلمى، وممارسة سلوك يحمل فى طياته شبهة تمييز طائفى ضد الأقباط. ولأن الجيش هو العمود الفقرى للدولة المصرية فمن شأن اتهامات من هذا النوع أن تخصم ليس فقط من الرصيد الوطنى للجيش، وهو كبير فعلاً، بل من دعائم الدولة نفسها أيضاً. فاتهام الجيش بارتكاب مجزرة ضد مواطنين عزل يشوه صورته السائدة حالياً، كراع للثورة وحاميها، ويظهره كأنه امتداد طبيعى لأجهزة أمن النظام القديم، واتهامه باستهداف الأقباط يخصم من رصيده كمؤسسة كانت، ولاتزال، تشكل بوتقة الصهر الرئيسية لوطنية مصرية لم تعرف التفرقة يوماً بين المسلمين والمسيحيين. ولأن الجيش هو المؤسسة الوحيدة التى ظلت صامدة ومتماسكة فى دولة نخر فيها سوس الفساد والاستبداد لحقب طويلة فإن الاهتزاز الفعلى لصورته قد يُحدث شرخاً كبيراً فى صلب البناء الاجتماعى، ويضعف من قدرة الدولة على الحفاظ على تماسكها على المدى الطويل. لذا من الطبيعى أن نعتبر الجرح الذى أصاب مصر فى ذلك اليوم الحزين من تاريخها الطويل هو من العمق بحيث لن يفيد معه أى علاج بالمسكنات، وأصبحت الحاجة ماسة إلى جراحة دقيقة ومعقدة. لكن قبل إجراء الجراحة ربما يكون من الضرورى إعادة تأهيل المريض، بمكاشفته أولاً بحقيقة ما أصابه، وبالمضاعفات التى قد تنجم عن ترك الجرح الغائر ينزف هكذا لفترة طويلة، وبتدريبه على التعود على أنظمة تمهيدية للتغذية والعلاج وربما إعادة تأهيله نفسياً أيضاً، لكن لا يوجد حتى الآن للأسف ما يشير من قريب أو بعيد إلى أن صناع القرار قد استوعبوا بدقة كل الحقائق المتعلقة بالمرض والمريض، ومن هنا شعورى بقلق عميق كان من الطبيعى أن يزداد اتساعاً وعمقاً عقب المؤتمر الصحفى الذى عقده المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فقد طُرحت خلال هذا المؤتمر رواية رسمية عن أحداث الأحد الدامى، أقل ما يقال فيها أنها غير مقنعة بالمرة، يمكن تلخيص ملامحها الأساسية على النحو التالى: 1 التأكيد على أن بعض المتظاهرين كانوا يحملون معهم سنجاً وسيوفاً وعصياً، بل زجاجات مولوتوف أيضاً، مما يدل على أن هناك من أراد للمظاهرة ألا تكون سلمية، وعلى أن المتظاهرين المسلحين بهذه الأدوات هم الذين بدأوا الاعتداء على الجيش، وصعدوا عرباته، وقاموا بضرب الجنود وإلقاء الحجارة فوق رؤوسهم. 2 استبعاد أى احتمال لقيام الجيش بإطلاق النار فى أى لحظة، وذلك لعدة أسباب أهمها: أ أن عناصر الجيش المكلفة بتأمين مبنى التليفزيون مسلحة بمعدات مقاومة الشغب وبعض ذخائر الفشنك. ب غير مصرح لها بحمل ذخائر حية. ج لديها تعليمات صريحة بالالتزام بأقصى درجات ضبط النفس. ولأن سلاح القوات المسلحة يختلف عن غيره من التسليح، ويُستخدم للقتل وليس للتأمين، فلو سمح باستخدامه لأصبحت العواقب وخيمة وربما كارثية. 3 التأكيد على أن عملية «الدهس» التى حدثت لبعض المتظاهرين تحت مدرعات الجيش لم تكن «ممنهجة»، «لأن الجيش المصرى لا يرتكب مثل هذه التصرفات الوحشية حتى مع العدو». 4 التأكيد على وجود شهداء وجرحى بين صفوف القوات المسلحة لم، وربما لن، يعلن عنهم «حرصاً على الروح المعنوية للقوات المسلحة، ولتجنب إثارة أى نوع من الحزازيات». 5 لم يتأكد المجلس بعد من هوية الأشخاص أو الجهات التى قامت بإطلاق النيران أمام ماسبيرو، لكنه يؤكد أن «هناك من قام بإطلاق النيران على الطرفين». ومع تقديرى الكامل لمصدر هذه الرواية إلا أنها تنطوى على ثغرات كثيرة، ولا تجيب عن كل الأسئلة، وتفتقر من ثم إلى القدرة على الإقناع، وليست هذه وجهة نظرى الشخصية وإنما هى وجهة نظر أغلبية من أتاحت لى الظروف أن أتحدث معهم حول هذا الموضوع خلال الأيام القليلة الماضية، سواء كانوا من المواطنين العاديين أو من النخبة. ورغم استبعادى التام لاحتمال أن تكون قيادات عليا فى الجيش قد أعطت أوامر باستخدام العنف الممنهج ضد المتظاهرين الأقباط، فإن الحرص على عدم الكشف عن أخطاء وقعت فيها القوة المكلفة بتأمين مبنى التليفزيون ربما تسبب فيها الهلع الذى أحدثه إطلاق النار من مصادر تعمدت إثارة الفتنة، وعدم تقديم تفسير مقنع لعملية الدهس التى تمت بواسطة مركبات تابعة للجيش أفقدا الرواية الرسمية مصداقيتها تماماً. لذا يتعين الاعتراف من حيث المبدأ بأن الطريقة التى أديرت بها أزمة ماسبيرو انطوت على أخطاء فادحة يتحمل الجيش مسؤوليتها كاملة، فلا يحتاج الأمر إلى تحقيق من أى نوع للتأكيد على أن عملية إدارة الأزمة شابها قصور استخباراتى، وسوء تقدير للموقف، وارتباك واضح، وعدم انضباط، هذا مع افتراض حسن النية الكامل. ولأن هذا الحدث الجلل يختلف نوعياً عن كل ما سبقه من حوادث طائفية، بما فى ذلك تلك التى وقعت بعد الثورة وهى كثيرة، فسوف يكون من غير المقبول إطلاقاً، بل من الخطورة بمكان، التعامل معه وفقاً لنفس المنطق أو النهج الذى اعتاده المجلس حتى الآن، ومن قبله النظام المخلوع، فى التعامل مع هذا النوع من الأحداث. فهناك دماء غزيرة سالت، وكانت تلك هى المرة الأولى التى يوضع فيها الجيش المصرى فى مواجهة مسلحة مع مواطنين لأسباب سياسية، فما بالك إذا كانوا أقباطاً فى الوقت نفسه. لكل ما تقدم أعتقد أن على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يشرع على الفور فى اتخاذ سلسلة من الإجراءات قصيرة الأجل، فى مقدمتها تشكيل لجنة تحقيق مستقلة من عناصر قضائية مشهود لها بالكفاءة لمعرفة ما جرى فى ماسبيرو، وتوقيع أقصى العقوبات على الذين تسببوا فى ارتكاب هذه المجزرة، وكذلك إجراءات طويلة الأمد تستهدف إعادة تصحيح المسار. وفى هذا السياق ربما يكون من المفيد وقبل أن يشرع المجلس فى وضع خطة طويلة الأجل للخروج من الأزمة الراهنة أن يكلف مجموعة من الباحثين الوطنيين المتخصصين المشهود لهم بالكفاءة للقيام بدراسة تستهدف إجراء تقييم علمى شامل لمجمل ما طرأ من تحولات فى مصر بعد الثورة، وفى كل المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، على أمل استخلاص: أ الدروس المستفادة من الأخطاء التى وقعت فيها إدارة المرحلة الانتقالية حتى الآن. ب النتائج المتوقعة لما قد تسفر عنه الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة إذا استمرت إدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية بنفس النهج الحالى. ج ملامح النهج الجديد المطلوب للخروج من الأزمة الراهنة ولإدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية. ودون استباق ما قد تسفر عنه هذه الدراسة المحتملة من نتائج فإننى على يقين تام بأنها ستخلص، ضمن أشياء أخرى كثيرة، إلى: 1 وقوع أخطاء جسيمة حتى الآن فى عملية إدارة المرحلة الانتقالية، كان من أهمها: البدء بتشكيل لجنة لتعديل الدستور بدلاً من هيئة تأسيسية لكتابة دستور جديد، ورفض إشراك مؤسسات المجتمع المدنى فى تحمل مسؤولية إدارتها. 2 قد تؤدى إدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية بنفس النهج الحالى إلى تسليم البلاد فى نهاية المطاف إما إلى فلول الحزب الوطنى، أو الجماعات الدينية المتطرفة، أو فتح الباب أمام انقلاب عسكرى قد تشجع عليه دول خارجية عديدة وتدعمه قوى وتيارات محلية باحثة عن الاستقرار. 3 وجود حاجة ماسة لتغيير النهج المستخدم حالياً وإصلاح ما ارتكب من أخطاء حتى الآن، وهو ما يتطلب تقصير ما تبقى من المرحلة الانتقالية إلى أدنى حد ممكن، مع الحرص فى الوقت نفسه على اتخاذ إجراءات تكفل تنظيف المكان قبل الشروع فى إرساء القواعد الأساسية للنظام الجديد. علينا أن ندرك أن «الربيع العربى» يتيح أمام الشعوب العربية فرصاً حقيقية وهائلة لوضع حد لنظم الفساد والاستبداد التى خيمت عليها طويلاً لكنه يضع أمامها تحديات ويثير مخاطر عديدة ربما كان أشدها فتكاً مخاطر إعادة تقسيم العالم العربى على أسس طائفية. وهناك مخططات جاهزة تعمل بوضوح على هذا الملف منذ فترة، وترى فى المراحل الانتقالية التى تعقب الربيع العربى فرصتها الكبرى للدفع فى اتجاه هذا التقسيم. كما علينا ألا نقلل أبداً من أهمية وخطورة شبكات المصالح الداخلية والخارجية التى تتربص بمصر ولا تستبعدها من مخططات التقسيم وتأجيج الصراعات الطائفية. لذا أشفق كثيراً على الجيش المصرى، وأهيب به ألا يقبل الاستمرار فى تحمل مسؤولية ما تبقى من مرحلة انتقالية منفرداً، فالشعب سيعتبره المسؤول الأساسى عن إجهاض الثورة إن هو أدار ما تبقى من المرحلة الانتقالية بطريقة تفضى إلى تسليم السلطة إلى فلول النظام السابق، أو إلى عناصر دينية متطرفة، أو تمهد الطريق لانقلاب عسكرى. فعندها قد يبدأ المعبد فى الانهيار فوق رؤوس الجميع. حفظ الله مصر قوية، وشعبها موحداً ومتماسكاً. نقلا عن المصرى اليوم