التدابير التي أقرّتها الحكومة البوروندية، والتي تقضي بتحديد النسل وعدم إنجاب أكثر من 3 أطفال لكلّ زوجين ووقف تقديم أي دعم مادي لمن لا يمتثل، لم ترق للكثير للآباء والأمّهات ممّن يرون في ذلك مسّا من التقاليد، فكان أن تبنّوا سياسة مضادة، تسلّحوا من خلالها بزاد وخبرة السنين، ومما جاد به عليهم أسلافهم من وصفات "طبية" ناجعة، لمواجهة قرار يرون أنّه لا يتطابق لا مع المعتقدات ولا مع العادات، وفقا لشهادات متفرّقة للأناضول. العديد من الأزواج الشبّان فضّلوا الامتثال للإجراءات الحكومية الرامية إلى الحدّ من الضغط الديمغرافي المثير للقلق الذي تشهده البلاد، جراء ارتفاع الولادات. تدابير لم ترق كثيرا للآباء والأجداد، فكان أن تسلّحوا بما يعرفونه من حيل لإجهاض فكرة الحدّ من النسل المطبقة على عقول أبنائهم. "حرب" باردة إختاروا أن يشنّوها بطريقتهم الخاصة، ضدّ كلّ من تسوّل له نفسه التفكير في حرمان نفس بشرية من معانقة الوجود.. هكذا برّر الكثير ممن إلتقتهم الأناضول، تشبّثهم بالإنجاب وتجاهل قرار الحكومة. تعقيدات ومتطلّبات الحياة المعاصرة أرهقت الأزواج الشباب. حمل ثقيل قد لا يدركه الآباء والأجداد، وإن فعلوا، فهم لا يرون فيه سببا مقنعا للعزوف عن الإنجاب. "الطفل هو هبة من السماء"، يقول بصوت خافت فابيان نيونغابو، البالغ من العمر 60 عاما، قبل أن يتابع "لا أحد بإمكانه رفض هذه الهدية إذا ما أراد إمتداد عشيرته وأسرته، ثمّ كم من زوجين يتوقان للحصول على طفل دون أن ينجحا في ذلك؟". نيونغابو، وهو أحد سكّان منطقة بوزيغا التابعة لمحافظة نغوزي (شمال)، إعترف بأنّه يمارس ضغوطا بهذا الشأن على أبنائه. الأمّهات يعارضن أيضا فكرة تحديد النسل، بل إنّ ذكرها فقط يجعلهن يتصلّبن ويثرن، بل يستنجدن بما إكتسبن من حيل، لإجبار أبنائهم على عدم تحديد النسل. هنّ يتفهّمن مشاغل الأزواج الشبان، لكن ذلك قطعا لا يعني السماح لهم بالتلاعب بمستقبل العائلة. وهكذا، يقمن بطرح بدائل "طبيعية" أو "تقليدية" لوسائل منع الحمل، مستعرضات، في ذلك، قصص نجاح مبهرة جرّبنها بأنفسهن. إيزيدوني ناراكوي، شابة في ال 26 من عمرها، من منطقة غيزوزي (وسط)، ومع ذلك، فهي أمّ ل 4 أطفال، قالت للأناضول، متحدّثة عن تجربتها الخاصة: "حين وصف لي الطبيب حبوبا لمنع الحمل، أصاب أم زوجي الهلع، وطلبت مني عدم استهلاكها لأنها تسبّب العقم، وسلّمتني، بدلا عنها، حزاما، أو شيئا يشبه الحزام، وقالت أنّه يتعيّن عليّ ربطه حول خصري. شهران إثر ذلك، شعرت بأعراض الحمل تنتابني". البعض الآخر من الأمّهات، وحين يستنفذن مخزونهن من الحيل، يلجأن إلى المشعوذين والمعالجين التقليديين، والذين يقدّمون لهنّ "وصفات" على شكل جرعات أو تعويذات "سحرية" أو أيّ وسيلة أخرى لجلب الحمل.. أيّ طريقة، بإستثناء الطبية منها، لعلمهن المسبق بفشلها في منع الحمل. أمّا إيماكيلي نيشيموي، وهي سيّدة في ال 45 من عمرها، وأمّ ل 3 أطفال، وتشتغل موظفة بالبنك المركزي البوروندي، فقالت من جهتها للأناضول: "في إحدى زياراتي لمنزل والدي زوجي، العام الماضي، نظرت إلي والدته مليا قبل أن تضع يدها على بطني وتضرب ضربات خفيفة، ثم رفعت إليّ عينيها سائلة إن كان يوجد شيء.. في البداية، لم أفهم المغزى من سؤالها، غير أنّها إنتهت مصرّحة حين سألتني مباشرة: لماذا لا تنجبين أطفالا آخرين؟ ودون أن تنتظر إجابتي، أعطتني مشروبا قالت إنّه عليّ أخذ جرعة منه صبيحة كلّ يوم، وطبعا أنا لم أفعل ذلك". أسئلة متواترة ولقاءات أصبحت تتمحور حول موضوع واحد: لماذا تأخرت زوجتك كلّ هذا الوقت لتنجب؟ وضع أصبح لا يطاق بالنسبة لإيزيدور ندابانيوي، فكان أن إنتهى معترفا لوالده بأنّ زوجته تستخدم، منذ 3 سنوات، حبوب منع الحمل. خبر أقام الدنيا ولم يقعدها، حيث "إستاء والدي كثيرا حين علم أنّ زوجتي تتناول بإنتظام جرعات تمنع التبويض"، يقول المدرّس بإحدى المدارس الابتدائية، وهو أب ل 5 أطفال. آخرون، أمثال مارك بوكومي، يلجؤون إلى التعاليم الدينية، وبما أنّ 60 % من البورونديين يعتنقون المسيحية (مقابل 10 % فقط من المسلمين، وفقا لتقديرات غير رسمية)، فإنّ معظم هؤلاء يستشيرون القساوسة الذين يستعرضون على مسامعهم خلاصة ما جاء به الكتاب المقدّس في هذا الإطار. يقول للأناضول: "الكهنة يؤكّدون إنّ مستخدمي وسائل منع الحمل يعارضون مشيئة الله، لذلك، فهم مذنبون". رأي يتّفق فيه معه قسّ الكنيسة الميثودية، أندريه ندوينغوما، والذي قال للأناضول: "الكتاب المقدّس (الإنجيل) يقول لنا إنّه ينبغي على الرجل أن يكون مثمرا وأن يملأ الأرض (بنينا).. إقرؤوا ما ورد فيه.. إنّه من الظلم منع ولادة الأطفال". الحكومة البوروندية، من جانبها، تبنّت سياسة تحديد النسل، رغم أنّ عدم الإمتثال لهذا الأمر لا يعني تسليط عقوبات فعلية، كما أنّ الهدف منها لا يشمل المساس بالتقاليد والعادات المتعارف عليها في البلاد. البروفيسور إيفاريست نغايمبيندا المختصّ في الديمغرافيا قال موضّحا الدوافع الحقيقية التي تقف وراء قرار حكومة بلاده: "بسكان يبلغ عددهم 10 مليون نسمة، وكثافة سكانية تتجاوز ال 373.6 ساكن في الكيلومتر المربّع الواحد، فإنّ بوروندي على شفا أزمة، ستكون لها تبعات وخيمة على الصعيد العقاري، بما أنّ أكثر من 90 % من السكان يرتزقون من الأرض، والتي ما فتئت مساحاتها تتقلّص بفعل الزحف العمراني عليها"، لافتا إلى أنّ الحكومة على وعي تام ب "هذه القنبلة الموقوتة التي تسمى الضغط الديمغرافي"، في بلد يعدّ فيه معظم السكّان من الريفيين والمزارعين". أمّا الحكومة، فلا تفوّت على نفسها فرصة للتذكير بإلزامية الحدّ من الولادات، حيث قال الرئيس البوروندي، بيير نكورونزيزا، في 12 مارس/ آذار الماضي، في إجتماع عقده مع حكام المحافظاتالبوروندية، في محافظة كايانزا شمالي البلاد: "البورونديون يعيشون من الأرض التي لا تزيد مساحاتها، بينما هم يزيدون، ولذلك، يتحتّم علينا الحدّ من الولادات بشكل كبير، وتعليم جميع أطفالنا لمنحهم فرصة العيش إعتمادا على مصدر آخر غير الزراعة".