بعد الأحداث الأحداث الدامية التي وقعت في مصر مساء يوم الأحد المشئوم (10 أكتوبر 2011) ومقتل عدد من أفراد القوات المسلحة برصاص خرج من "مظاهرة مسيحية"؛ لم يعد عصام شرف في وضع يمكنه من البقاء رئيساً للحكومة المصرية في الفترة المقبلة، ولم يعد المجلس الأعلى للقوات المسلحة في وضع يسمح له بمزيد من التردد وعدم الحسم في ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة، وإخضاع الجميع بقوة القانون. وأتصور أن مصر باتت في أشد الحاجة إلى "حكومة أمنية" برئاسة شخصية حازمة تكون مهمتها الرئيسية استرداد "الأمن والنظام" إلى أن تنتهي العلمية الانتخابية وتتسلم السلطة حكومة مدنية منتخبة. أصل حكاية المظاهرة الدموية "مضيفة". وأصل المضيفة "منزل سكني" أراد 36 شخصاً مسيحياً(حصرياً) أن يحولوه إلى "كنيسة" ، بارتكاب جرائم تزوير في أوراق رسمية، وبقوة الأمر الواقع في قرية صغيرة اسمها "ماريناب" تابعة لمحافظة أسوان. وبقية التفاصيل تختلط فيها الروايات وتتكاثر بشأنها الإشاعات. وما أغضب المسيحيين حتى أخرجهم في مظاهرة يوم الأحد المشئوم هو محاولة مسئولي الحكومة في محافظة أسوان فرض سيادة القانون الذي ينظم عملية بناء الكنائس. وليس "التمييز" ضد المسيحيين هو سبب هذا الخروج الغاضب، فقط هو التعارض بين إرادة الدولة في فرض هيبة القانون واحترامه، وإرادة "الحزب الطائفي" في فرض الأمر الواقع رغماً عن سلطات الدولة. أما قصة التمييز فالاختلاق فيها هو سيد الموقف بدليل أن الإجراءات والعقبات التي تضعها السلطة أمام بناء المساجد أضعاف أضعاف ما يشكو منه المسيحيون. والفرق هو أن المسيحيين يرغبون في فرض "أمر واقع" على الجميع، ويريدون ألا يعترضهم أحد، ولا أن يحاسبهم أحد. يريدون أن يكونوا فوق القانون. ميدانياً وإعلامياً هناك هوجة للتعمية على "العنف" الدموي ولغة التهديد بالقتل للمسئولين الحكوميين الذي نطق به رجال دين مسيحيون علانية ودون مواربة. وبعد بضعة أيام كادت تختفي هذه التصريحات المتوعدة بالقتل وكادت الرصاصات التي حصدت أرواح جنود الجيش المصري أمام ماسبيرو تختفى، وتحول المجرم إلى برئ، والضحية إلى قاتل. لو لأن عُشر ما حدث كان على يد "متطرف إسلامي" لعشنا عدة عقود قادمة في التنديد والتنويه والإدانة والتبشيع للإسلاميين بجملتهم، ودون تمييز. ولكن أما وأن مرتكب جريمة القتل ليس إسلامياً، وبما أن الذي نال بالرصاص من أعز مؤسسة على قلوب المصريين بمسلميهم ومسيحييهم وهي الجيش ليس "مسلماً" إذن فلنكفي على "الخبر ما جور"، ونقلب الحقائق رأساً على عقب، ومع ذلك لا مانع أن نستمر في المطالبة بدولة "القانون"، والتخويف فقط من أن تسترد أغلبية المواطنين حريتها وتختار النظام الذي تريد أن يحكمها(!!). هناك فراغ صبر من مختلف الطبقات الاجتماعية انتظاراً لجني أرباح فئوية وطائفية من "الثورة". وكل فئة ترى نفسها أحق وأولى من غيرها. وكذلك هناك فراغ صبر من جانب المسيحيين الراغبين في تحقيق مطالب طائفية تتعلق ببناء مزيد من الكنائس حيناً، أو بالحصول على حصة أكبر من المناصب العليا في جهاز الدولة حيناً آخر. والشواهد على ذلك نجدها يومياً في الاعتصامات والاحتجاجات الفئوية على امتداد البلاد. ميدانياً أيضاً لم تستطع الحكومة أن تلبي تلك المطالب الفئوية أو الطائفية كلها، أو على النحو الذي يرضي أصحاب تلك المطالب؛ نظراً لظروف المرحلة وأزماتها الخانقة. والقوى السياسية الثورية والحزبية، وائتلافات شباب الثورة المتكاثرة في ميدان التحرير، لم تقم هي الأخرى بأي جهد في التصدي للامنطقية وعشوائية المطالب الفئوية والطائفية، ووقفها ولو مؤقتاً على الأقل إلى حين انتهاء المرحلة الانتقالية كما لم تستطع هذه القوى أن ترشد تلك الاحتجاجات في أطر منظمة "آمنة"؛ ربما لأنها هي نفسها في معظمها عاجزة عن ترشيد أدائها، أو لاهية بمكاسب حزبية ضيقة عن إدراك خطورة اللحظة التي تمر بها البلاد. في ميدان المطالب الفئوية نزلت جموع من مختلف القطاعات والمؤسسات والمهن ومؤسسات القطاعين العام والخاص، دون استثناء وفي وقت واحد. وتزامنت ضغوطات هذا النزول "الفئوي" العشوائي مع ضغوطات نخبوية/سياسية لا تقل عشوائية عن "هوجة" المطالب الفئوية. والحصيلة هي أن السلطة الانتقالية بفرعيها المدني والعسكري وجدت نفسها بين شقي الرحي؛ فلا هي بقادرة على الاستجابة للمطالب الفئوية، ولا هي بقادرة على الإفلات من عشوائيات النخب السياسية المتزاحمة على الساحة. وتوافق أن يكون قدر مصر في هذه المرحلة على المستوى الرسمي بين رئيس حكومة صالح اسمه عصام شرف، "لو أقسم على الله لأبره"، ورئيس للمجلس الأعلى للقوات المسلحة اسمه "حسين طنطاوي" لا يختلف في صلاحه وطيبته عن رئيس الحكومة. منطقياً، وبقراءة المشهد السياسي المصري العام، فإن أرباب الحاجات والمطالب حتى من أبسط الجماعات ثقافة، وأقلهم وعياً بشئون المجال العام توصلوا إلى أن هذه فرصة ذهبية لتحقيق ما عجزوا عنه تحقيقه في العقود السابقة. واستنتج الوعي الجمعي لتلك الفئات أنه يمكن بلوغ الأماني دفعة واحدة في لحظة "ضعف سلطة الدولة المركزية"، بعد أن ثبتت استحالة تحقيقها عندما تكون هذه الدولة في كامل قوتها وتمام عافيتها، ولم توفر أي جماعة أو فئة وقتاً أو جهداً للضغط على الحكومة والمجلس العسكري. ومن هنا فإن الأقباط ليسوا استثناءً من هذا التوجه الفئوي العام الذي يعم البلاد؛ ولهذا هم ينزلون كما ينزل غيرهم، ويضغطون لعل وعسى !. ورغم وجاهة هذا "التحليل الفئوي أو الطائفي" لأحداث ماسبيرو؛ إلا أنه غير مقنع، ولا يمكن أن يفسر ما حدث من فظاعات ضد قوات الجيش. وفي رأينا أن الذي يفسر ما حدث يقع "خارج حدود مصر"، ويرتكز على "مطالب إقليمية ودولية" تستهدف ترويض الثورة المصرية، وإغراقها في مستنقع من المشاكل والانقسامات الداخلية، ومنع امتداد تأثيراتها إلى ما حولها، مهما كان الثمن. ويستوي استغلال مظاهرة مسيحية لتحقيق هذا الغرض، مع استغلال مظاهرة سلفية؛ فالمهم هو "التقويض"، و"الترويض": تقويض الأمن المصري، وترويض الثورة واستئناسها داخل قفص الحدود الجغرافية لمصر. وأياً كانت الأسباب التي حركت المتظاهرين المسيحيين صوب ميدان ماسبيرو يوم الأحد الماضي، وأياً كانت الأيدي الآثمة التي امتدت لتنال من قوات الجيش المصري في عيد انتصاره العظيم، فإن المسئول الأول والأخير عن تلك الأحداث هم "زعماء هذه المظاهرة" وليس أحداً غيرهم، ليس بصفتهم مسيحيين، أو لأن أغلبيتهم من الكهنة ورجال الكنيسة المفترض أن عملهم في دور عبادتهم وليس في قيادة المظاهرات والتحريض ضد السلطات العامة في الشارع؛ وإنما لأنهم هم من أتاح الفرصة أمام الراغبين في تركيع مصر، والساعين إلى ترويض الثورة المصرية وإشغالها بنفسها، فارتكبوا ما ارتكبوا من اعتداءات آثمة على قوات الجيش والمواطنين. هذا وإلا فليقل لي واحد: هل من المعقول أن تسير تظاهرة مسافة بضع كيلو مترات "من ميدان شبرا" إلى ميدان ماسبيرو؛ دون أن يلتحم بها كل خارج على القانون، وأنصار فلول النظام البائد، وكل بلطجي، وكل مأجور جلبته دولارات وإغواءات "حسناوات السائحات" الأوربيات والأمريكيات اللائي لا يتوقفن عن عقد الجلسات على المقاهي و"الغرز" في شوارع وأزقة القاهرة الكبرى لتجنيد الشباب العاطل والبلطجية للقيام بمثل هذه الأعمال الشنيعة لخدمة أجندة القوى الخارجية التي تريد محاصرة وترويض الثورة المصرية؟ هل من المعقول أن يقدم قساوسة وكهنة لاخبرة عندهم في هكذا عمل سياسي جماهيري، ولا قدرة لديهم على ضبط نظام التظاهرة التي قادوها كل هذه المسافة، وحراستها من المندسين والعناصر الإجرامية إلى حين الوصول إلى مقر التلفزيون المصري في ماسبيرو؟. ثم يكون الهم الأول والأخير لأغلب المعلقين هو تبرئة ساحة "المسيحيين" من إطلاق النار على القوات المسلحة وقتل عدد من أفرادها وحرق بعض مركباتها؟. هل هذا معقول؟ ومن الذي سمح لهم بالحرك على هذا النحو العشوائي؟ ولماذا لم يتعلموا من مليونات التحرير التي يقوم منظموها "بحراستها" وتأمينها بالكامل قبل أي شيء آخر؟. أقول: إلى أن تنتهي التحقيقات الجنائية فيما حدث، فإنه لا يوجد دليل إثبات على أن المتظاهرين المسيحيين هم من قاموا بأعمال العنف الدموي ضد القوات المسلحة، ولا يوجد دليل نفي كذلك. ولكن ليس هذا هو السؤال المهم. المهم هو الإمساك بالمسئول عن قيادة وتنظيم هذه التظاهرة التي أفضت إلى هذه النتائج كائناً من كانوا: مسلمين أو مسيحيين، وتحميلهم مسئولية تعريض الأمن العام للخطر، ومسئولية العدوان على جيشنا الباسل في عيد انتصاره. ومسئولية تعكير أجواء البلد لقطع الطريق على بدء مسار العملية الانتخابية المفترض أن ينفتح باب الترشح لعضوية مجلس الشعب يوم الأربعاء 12 أكتوبر. إن العبرة في أي عمل عام هي بمآلاته وما ينتهي إليه. وقد انتهت تظاهرة المسيحيين إلى كارثة بكل المقاييس وإزهاق عشرات الأرواح ومئات الجرحى من القوات الجيش والمتظاهرين، وأدخلت البلاد في "منزلق خطير" يمكن أن يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. وهذا ما يجعلنا نوجه أصابع الاتهام إلى زعماء ومنظمي هذه المظاهرة، وليس الشباب البرئ الذي انساق معهم أو انضم إليهم. ما حدث مساء الأحد المشئوم هو نقطة فارقة في مسار الثورة المصرية. وهو سابقة غير مسبوقة بالنسبة للجيش المصري. وما بعد ذاك المساء يجب ألا يكون مثل ما كان قبله. وأول إجراء يتعين اتخاذه دون تباطؤ هو أن يقرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة إقالة حكومة مولانا الدكتور عصام شرف(وكلنا يعلم أنه رجل طيب لو أقسم على الله لأبره)، وتعيين حكومة "أمنية"؛ لا حكومة تصريف أعمال ولا حكومة انتقالية ولا غيره؛ مصر بحاجة إلى "حكومة أمنية" برئاسة شخصية قوية وحازمة من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، إلى أن نصل إلى بر الأمان بانتخابات حرة، وحكومة يحاسبها الشعب.