حكاية قديمة حصلت لي قبل قريب من عشرين سنة، في حوار بيني وبين صديق مندفع عاطفي، لا تزال تتكرر بأشكال مختلفة.. في غمرة انفعاله قال: تصور أن أحد الشبان المغفلين ركب جملاً مطهمًا، وسار نحو عشرين كيلو مترًا وسط شوارع العاصمة الكبرى، وأحيائها المكتظة - مارًّا بميادينها الفسيحة المزدحمة - حتى وصل إلى مبنى جامعة القاهرة العريق فدخله، ثم لما وصل إلى كليته أناخ الجمل وعقله، وتوجه مريدًا الدخول إلى المدرج، فلما سئل عن ذلك قال إنه يتشبه بالسلف الصالح.. وتصور أن أحدهم رأى رجلاً يأكل على طبلية فكسرها لأن ذلك مخالف للسنة؟ وتصور أن أحدهم... وتصور أن...هل هذا لائق أو معقول؟ أليس هذا تحجرًا وغباء؟ قلت لصاحبي: أربع عليك ولا تنفعل. هل فكرت قليلاً فيما تقول!؟ أتصدق أن أحدًا يمكنه – في تلك الأيام لا أعادها الله - أن يركب جملاً بالشكل الذي وصفته، وسط العاصمة التي نسيت الجِمال منذ عقود، والمختنقة بزحام السيارات والبشر، ويتمكن مع ذلك من الوصول للجامعة، ويخترق أسوارها وأمنها وحرسها الغبي المتربص، الذي لا يأذن لملتح أو محجبة بالدخول للجامعة؟ إن هذا لا يقول به إلا غافل، أو مستغفَلٌ، أو كذاب! ألا تحس في هذه الشائعة بالاستدراج ومحاولة الاستغفال؟ وانطلقت بي الذاكرة أستطلع عينات محاولات الاستدراج التي سقطنا في فخاخها - بقناعة وحماسة منقطعتي النظير - ولم يكد ينجو منها أحد منا. لقد صنع الغرب لنا قبل عقود "فخًّا محكمًا" اسمه آيات شيطانية.. وسلمان رشدي؛ ذلك (القادياني/ العلماني) الذي لم ينشأ مسلمًا أصلاً؛ لتنشق الحناجر صراخًا وهتافًا بموته، مطالبة برقبته كرجل ارتد عن الإسلام، ولتقوم الدنيا - ولا تقعد - ضد "الوحشية الإسلامية" وضد الإبداع، والعف=قلية التي تخنق البلابل، وتقمع التعبير.. إلخ. مع أن هذا الكائن - بكل المقاييس - ليس مسلمًا، وليس أديبًا، وليس مبدعًا، وليس شيئًا أصلًا! وبانفعالاتنا، وردود أفعالنا (المحسوبة المتوقعة المدروسة من خصومنا) صيرناه شيئًا مذكورًا، وصنعنا بأنفسنا من الأرنب أسدًا، ومن المجهول النكرة علمًا مرشحًا لجائزة نوبل، وصيرناه أقبح الناس كلامًا؛ مع أن في بلاد المسلمين من هم أشد منه سوءًا، وأقبح ذكرًا، وأحط اعتقادًا، وأحقر إنتاجًا! وفي سنة 1994 صنعوا أكذوبة الختان، بسيناريو عالمي أشرف على تلفيقه وتزويقه وتأنيقه اليهودي "تيد تيرنر" صاحب سي إن إن، وزوجته المتعاطفة جدًّا مع اليهود "جين فوندا" الممثلة الصهيونية، ليخرج العالم بانطباع بشع عن مصر العربية المسلمة، وعن الإسلام الذي يستأصل جنس النساء، ويكبت الأنوثة، ويصادر الرقة، ويريد المرأة أن تكون "بمجانص" وكتل عضلية في لسانها، وفي أطرافها وجسمها، على طريقة شوارزنيجر في شبابه، ونجوم المصارعة الحرة، مع العلم أن الختان لم يوجبه - في حدود علمي - غير الشافعية، ويعده الجمهور من المكارم، كما أنه لا يمارس في العالم الإسلامي - 1500 مليون نسمة - إلا بين أقل من ستة من المائة من سكانه! ومع ذلك فقد دمغوا الإسلام بدمغة قبيحة، تحتاج إلى جهد كثير، ومال وفير، ووقت طويل للتصحيح وإزهاق الباطل. واستغل مشعلو الفتن "طالبان" وحماسة مبتدئةِ طالبان، وشراذم الأفغان المتناحرة، وعنتر الزوابري، والسلفية الجهادية، والقاعدة، والراقدة، والهامدة، والبائدة؛ ليقدموا الإسلام من خلال المشانق والتضييق والسحل، ويقدموا - باليد الأخرى - للمقاتلين الجياع العراة أنفسهم المزيد من الصواريخ والدبابات والطائرات المروحية وراجمات الصواريخ وغيرها؛ ليندفع المغفلون - إن أحسنا بهم الظن - لمزيد من الجنون، ومزيد من تغذية الإعلام الكاره للإسلام والمسلمين والعرب أجمعين. واعجب أن أردت من أمة حافية/ عارية/ جائعة/ جاهلة، وفي أيديها راجمات صواريخ، ورشاشات، وبنادق، وألغام، وأشياء كثيرة لا تعرف من أين تأتيها، وهي لا تقدر فعلاً على دفع ثمن رشاش واحد إن طلب منها، فمن أين هذا السيل الجرار من الجحيم والنار، حيث لا طعام ولا شراب ولا مأوى؟ وأعجب أكثر من دولة تساعد "النظام العالمي" وأهلها جياع جهلاء فقراء، مرضى منهكون مرتهنون، وتملك ترسانات أسلحة ثمن بعضها كفيل أن يؤمن أمتهم من خوف، ويطعمها من جوع! وفي وقت ما قامت حملة لتشويه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، الرجل المتفق على وقاره وفضله وعمله للإسلام - نحسبه والله تعالى حسيبه، ورحمه برحماته، واسكنه رضوانه - فأقحم للإفتاء في قضايا من حقه أن يتكلم فيها - مخطئًا أو مصيبًا؛ فهو مأجور في الحالين إن شاء الله - لتنطلق على إثرها الألسنة تطعن فيه وفي علمه، حتى نسبه بعض الجهال للزيغ والضلالة، محاولين هدم تاريخ طويل شاده الشيخ - دعوة وعملاً وذكرًا وتعليمًا – وحتى وصفه غبي عاطفي مندفع بأنه رحمه الله ورضي عنه (أعمى البصر والبصيرة) ثم استدارت صحف "خضراء الدمن" لتقع في أعراض كل التيارات، وكل الدعاة، وترميهم بالإفك والضلالة والكفر والبدعة البهتان. ومنهم من كان يوسوس في آذان بعض مشايخنا الكبار الأفاضل، ناقلين تصرفات يجن لها الحجر، وسلوكيات لا هي معقولة ولا مقبولة، ولا هي أيضًا حاصلة؛ ليكتب الشيخ متهمًا قطاعًا كبيرًا من أبناء الإسلام بالغباء، والتخلف، وسوء النية، ولينقطع التواصل، ويقع الجفاء. ومن المحاولات الاستدراجية الناجحة التي سمعتها: مشاركة أحد العنيفين المقيمين في لندن، برنامج أو "فخ" نصبته ال "بي بي سي" له بالمشاركة مع حاخام، وقسيس، وبعض الإعلاميين؛ حيث حاصروا أخانا المعارض المندفع الذي لا يزن كلامه، "وهات يا سب" فيه، وفي الإسلام والمسلمين، ولم ينقذه من براثنهم إلا انتهاء وقت البرنامج، وأتمت الجرائد والمجلات الصفراء الكارهة للإسلام المهمة، فنشرت اللقاء مكتوبًا؛ محفوفًا بالشماتة في الإسلام والمسلمين، ومحاولة تمريغ شرفهم في الوحل. إن فخ الاستدراج فخ متكرر، والأعين البصيرة قليلة، لكن العجيب وقوع الناس في الاستدراج المرة بعد المرة دون ربط الجزئيات، والنظر إلى الأمور بشكل حاكم وناقد ومحلل. وإن استدراج الإسلاميين إلى فخاخ تكسر الأعناق أمر شديد الوضوح، كثير التكرار حتى أيامنا هذه، وأسوؤها الاستدراج الإعلامي، الذي يدفع كثيرين إلى أن يظهروا على الفضائيات ل"يبعبعوا" بكلام مضحك في كثير من الأحيان، وليقدمهم المذيع اللئيم كائنات مندفعة (خيبانة) عديمة الخبرة، بعد أن صاروا جميعًا بتوع سياسة، وإدارة، وشمولية، وتنظير! وإن المسلم - كما شاع على لسان القاصي والداني - كيِّس فطن. وهو وإن لم يكن مخادعًا فإنه لا ينخدع بسهولة؛ كما قال ملهم الأمة ومحدَّثها الفاروق رضي الله عنه: "لست بخب وليس الخب يخدعني". والملاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه الكثير من الأمور التي تبقي عقولهم يقظة، وصدورهم طاهرة، ووعيهم متقدًا: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا، وَقَالُوا: هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)! كفى بالمرء كذبًا أن يحدث ما يسمع. من نقل حديثًا وهو يعلم أنه كذب فهو أحد الكاذبين. دعوا لي أصحابي.. إلخ. وينهي النبي صلى الله عليه بشدة عن أن يغتاب مسلم مسلمًا، أو يقع في عرضه؛ فذلك من الكبائر، ومن استساغة أكل الجيف التي لا يسيغها إلا حيوان أعجم، أو إنسان في مخمصة يكاد يشرف على الموت. ويأبى النبي صلى الله عليه قتل المنافق ابن سلول؛ حتى لا يقال: إن محمدًا يقتل أصحابه.. والعظيم عمرو بن العاص رضي الله عنه يحس بمؤامرة أرطبون بقتله، فيستدرج هو أرطبون، ويقدم له طعامًا يسيل له لعابه، فيعمَى الأحمقُ عن الفخ؛ لينجو عمرو رضي الله عنه، وتتحقق المقولة العمرية "رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب"، وبدلاً من أن يقع هو في الفخ يصيده وهو وجيشه! وعمرو بن العاص نفسه كان من أوعى الناس وأبصرهم بخصومه، وبنمط تفكيرهم؛ فلم يكن يسهل استدراجه، فقد سئل عن الروم (الغرب الآن) والمواجهة معهم، فقال كلامًا عجيبًا مدهشًا، ورد في صحيح مسلم: فحين سمع قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس). قال رضي الله عنه لمحدثه: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعًا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة/ وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة/ وأوْشَكُهم كَرَّةً بعد فَرَّة/ وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف/ وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك ! الله الله عليك أيها الواعي المنصف الحصيف الفطن! وينتبه سيدنا الصحابي كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه - الذي كان من المخلَّفين في غزوة العسرة - لقضية الاستدراج، حين يأتيه كتاب من ملك غسان النصراني، يؤلبه على رسوله صلى الله عليه ، ويقول له: "إنك لست بدار هوان، فالحق بنا نواسك" فيعلم أن ذلك من جملة الابتلاء والاستدراج، فيلقى بالكتاب في التنور، ويهرع إلى رسول الله صلى الله عليه نادمًا تائبًا باكيًا. لكن لما استدرج السبئيون جيوش المسلمين للاقتتال زمن الخليفة معاوية رضي الله عنه انفتح على الأمة باب فتنة لم يزل مفتوحًا إلى يومنا هذا، وأظنه باقيًا إلى يوم القيامة. وإن على عقلاء الأمة وعقولها أن ينبهوها إلى مكامن الاستدراج، وشراك الشانئين، وفخاخ الحاقدين: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال: 42). وإن لشياطين الإنس والجن لفخاخًا متطورة مزوقة، وأحابيل حريرية لو دارت على العنق خنقت وأزهقت الروح: روح الفرد، أو روح الأمة، أو أرواح الأجيال الحاضرة والآتية. فخاخهم إعلامية/ فخاخهم/ تنظيمية/ فخاخهم سياسية/ فخاخهم توريطية/ ألف لون ولون، وألف فخ وفخ، وألف مكر ومكر، وألف فكر متواطئ وفكر! والعقل والدين يلزمني وإياك أن نعرف زمننا، ونعرف خصمونا، وتعرف صديقنا.. وإلا فهنيئًا لنا الصفعة تلو الصفعة، والركلة بعد الركلة، و(الشلوت) يقذف بي وإياك خارج الحدث والزمن والتأثير.. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد [email protected]