كتبت فى أغسطس 2010 مقالا جر علىّ بعض المشكلات لأن البعض اعتبره إهانة شخصية موجهة للنظام الحاكم آنذاك. قلت فى مطلعها متهكما: «هناك جديد فى هذه الفترة من تاريخ مصر وهو أننا لأول مرة فى تاريخنا السياسى سنواجه معضلتين معا وهما التزوير والتوريث ومن هنا فإن مصر فعلا تتقدم بنا: فبدلا من التوريث منفردا والتزوير منفردا أصبحنا نواجه الاثنين معا فيما يمكن تسميته ب«التزويث». والحقيقة أننى أثير هذه القضية الآن لأتساءل عن الجديد الذى أضافته ثورة يناير إلى تاريخنا الطويل. وقبل أن أجيب سآخذ حضراتكم إلى رحلة تاريخية سريعة حتى نفهم أصل الحكاية. الأصل فى الأمور أن مصر لم تعرف فى تاريخها التزوير لأنها كانت تتمتع بمزية التوريث. لكنها احتاجت للتزوير بكثافة حين ظهرت التعددية السياسية فى مرحلة ما بعد دستور 1923 ثم مرحلة ما بعد المنابر فى أواخر السبعينيات. وحتى نضبط المصطلحات جيدا فلنعرّف توريث الحكم بأنه انتقال إدارة البلاد والعباد من حاكم لآخر دون أن يكون من حق العباد أن يتمتعوا بخاصية الاختيار من متعدد أى المفاضلة بين أكثر من مرشح أو حزب أو برنامج انتخابى. والأصل فى التوريث أنه «انتقال ملكية شىء أو دابة من شخص لآخر يحق له شرعا أن يرث منه». وفى مجال السياسة يستخدم المعنى على سبيل الاستعارة المكنية كقول البحترى: «أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا» حيث شبه الربيع بالإنسان وحذف المشبه به وأتى بصفتين من صفاته (يختال وضاحكا). وعليه فتوريث الحكم يتضمن استعارة مكنية لأنه يشبه الشعب أو الدولة بشىء أو دابة يتم توارثها وحذف المشبه به وترك لنا جوهر الصفة وهو عدم العقلانية وعدم القدرة على تحديد المصير كما هو الحال فى الأشياء والدواب. ●●● بهذا المعنى فالمصريون يُورَّثون منذ مينا نارمر موحد القطرين أى قبل 3000 سنة قبل الميلاد، ومن بعده جاءت الأسرات الثلاثون المعروفة والتى انتهت مع حكم الإسكندر الأكبر لمصر فيما عرف باسم العصر اليونانى والذى جاء فى أعقاب طرد الفرس من مصر فى عام 333 قبل الميلاد. ومن بعده جاء البطالمة ثم العصر الرومانى ثم الفتح العربى الإسلامى والذى كانت مصر فيه ولاية إسلامية يتم تحديد الوالى عليها من قبل الخليفة فى المدينة (لمدة نحو 20 سنة) ثم دمشق مع الدولة الأموية (نحو 100 سنة) ثم الكوفة ثم بغداد فى فترة الحكم العباسى الأول (نحو 100 عام) إلى أن شهدت الخلافة الإسلامية تراجعا فى قبضة السلطة المركزية فى بغداد ودخلنا فى عصر استقلال مصر النسبى عن الخلافة من خلال حكم الطولونيين (نحو 40 سنة) ثم الإخشيديين (نحو 40 سنة أخرى) ثم الفاطميين (نحو 200 سنة)، ثم الأيوبيين (حوالى 100 سنة) ثم المماليك (نحو 250 سنة) ثم العثمانيين (نحو 300 سنة) قبل أن تتحرك الإرادة الشعبية المصرية بقيادة مشايخ الأزهر على سبيل الاستثناء لتعين محمد على الذى ما لبث أن أعاد بناء هيكل السلطة فى مصر على أساس التوريث مرة أخرى فى ظل ما يطلق عليه الدولة العلوية (نحو 150 سنة)، ثم دخلنا فى عصر الجمهورية حيث تم توريث البلاد من الرئيس إلى نائب الرئيس الذى يختاره. وقد حاول المصريون وقف سيل التوريث هذا أكثر من مرة ومنها محاولة الزعيم أحمد عرابى عام 1881 حين وقف أمام قصر الخديوى توفيق قائلا: «لقد خلقنا الله أحرارا، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا؛ فوالله الذى لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم». ومن أسف استمر قطار التوريث كما لو أن المصريين تراث أو عقار رغما عن جهوده تلك. فى كل هذا التاريخ الطويل كان الغالب أن المصريين يدعون الله أن يصلح الله من أصبح، أى أنهم كانوا يتعاملون مع من يحكمهم مثلما يتعاملون مع فيضان النيل أو أنواء البحر بمنطق لعله خير. وعلى هذا كان التوريث منطقا مقبولا حتى وإن كان القبول لا يعنى بالضرورة الرضا وإنما التكيف والتعايش مع ما لا حيلة للمرء حياله. هذا عن التوريث، ماذا عن التزوير؟ فلنضبط المصطلح أولا: التزوير هو «تزييف إرادة الناخبين بإعطاء أصوات انتخابية لحزب أو مرشح أو اقتراح بدون وجه حق فى انتخابات تعددية أو فى استفتاءات شعبية». ولم تكن السلطة بحاجة لتزوير الانتخابات مادامت لم تكن هناك انتخابات حيث تتركز الصلاحيات التشريعية والرقابية (إن وجدت) فى يد شخص الملك أو السلطان أو الوالى. لكن الحاجة للتزوير بدأت حينما عرفت مصر التنافس الحزبى من أجل الحصول على الأغلبية فى المجلس النيابى الذى سيتولى عمليتى التشريع والرقابة والذى بدوره سيعطى الثقة للحزب (أو الائتلاف الحزبى) الفائز بأغلبية أصوات الناخبين. من هنا شهدت مصر فى مرحلة ما قبل الثورة انتخابات عديدة شابها التزوير باستثناء انتخابات عام 1924 وانتخابات عام 1950 واللتين فاز فيهما حزب الوفد. لكن هذا التزوير لم يكن له تأثير على عملية التوريث لأن انتقال السلطة العليا فى مصر الملكية لم يكن يقرر من خلال الانتخابات، ففؤاد ترك الحكم لابنه فاروق الذى كان سيترك الحكم لابنه أحمد فؤاد لولا قيام الضباط الأحرار بانقلابهم الذى أعطاه المصريون الشرعية الثورية بتأييدهم له. ●●● فى مطلع هذه الألفية شهدت مصر والعالم حدثين غيرا من هذا النمط المتواتر من التوريث دون الحاجة للتزوير (كما هو فى عهد مصر بعد ثورة 1952 حيث كان يتم استبعاد المرشحين غير المرضى عنهم دون الحاجة للتزوير) أو التزوير غير المؤثر على عملية التوريث (كما هو فى انتخابات ما قبل ثورة 1952 حيث منصب الملك ليس موضع تنافس انتخابى). الحدثان هما: حكم المحكمة الدستورية لسنة 2000 والذى فسر المادة 88 من الدستور بحتمية أن يكون هناك إشراف قضائى مباشر على عملية الاقتراع (أو ما عرف شعبيا بفكرة قاض لكل صندوق انتخابي). وهذا الحكم بصيغته تلك يعنى ضربة لعملية التزوير لا سيما مع وجود قضاة شرفاء قرروا أن يأخذوا الحكم على مأخذ الجد. الحدث الثانى هو تبنى إدارة بوش لأجندة الديمقراطية فى الشرق الأوسط فى أعقاب أحداث سبتمبر فى الولاياتالمتحدة والتى جعلت البيت الأبيض يحمر وجهه ويكشر عن أنيابه معتقدا أن الإرهابيين نبت طبيعى لغابة الاستبداد التى يعيشها المسلمون فى الشرق الأوسط. وبالتالى ربط بين أمن الولاياتالمتحدة والتحول الديمقراطى فى منطقتنا. وتزايدت الضغوط على مصر وبعد أن كان المسئولون المصريون يرفضون بشدة أى «ضغوط أو دروس نتلقاها من الخارج» على حد تعبير وزير الخارجية أنذاك ويؤيدهم فى ذلك كلام الرئيس السابق بأن الدعوة لتعديل الدستور دعوة باطلة، فجأة وجدنا الرئيس مبارك يعلن عن التعديل الدستورى الأول (فى فبراير 2005) والذى يسمح بانتخابات تعددية على منصب رأس الدولة. وهو خطأ استراتيجى وقع فيه الرئيس مبارك الذى تعجل فى الاستجابة للضغوط الأمريكية، لأنه لو كان انتظر حتى نهاية العام وشهد فوز حماس فى انتخابات يناير 2006 لما احتاج لتعديل الدستور أصلا لأن الإدارة الأمريكية توقفت عن دعم مطالب التحول الديمقراطى فى الشرق الأوسط بعد تحذيرات شديدة من إسرائيل واللوبى الصهيونى فى أمريكا بأن المزيد من الديمقراطية فى بلاد العرب سيعنى وصول أعداء إسرائيل إلى الحكم. المهم أن الرئيس السابق مبارك وجد نفسه فجأة فى موقف معقد: التزوير يزداد صعوبة بحكم المحكمة الدستورية والتوريث يزداد صعوبة بحكم التعديل الدستورى الأول فى 2005. وبوضع الاثنين جنبا إلى جنب أصبحت هناك فرصة، ولو ضئيلة، لأن ينتخب المصريون بإرادة حرة من يأتى بعده. ولأن المصريين أُقيلوا ثم استقالوا من الحياة السياسية فأغلب الظن أن من يأتى بعده لن يأتى بإرادة الأغلبية وإنما بإرادة الأقلية المنظمة القادرة على الحشد والتعبئة (أى الإخوان). ومن هنا كان لابد من تعديلات 2006 الدستورية للقضاء على معوقات التزوير (أى الإشراف القضائى المباشر على عمليتى التصويت والفرز) حتى يمكن التوريث. وعليه أصبحنا نعيش وضعا سياسيا جديدا وهو ما اسميته «التزويث» الذى هو حالة مصرية من التزوير المتناغم مع التوريث، لأنه بلا تزوير ما كان ليحدث توريث. وقد وقع هؤلاء فى فخ فجاجة انتخابات مجلس الشعب 2010 ليستيقظ الشعب رافضا التوريث والتزوير معا. ●●● الخلاصة لو كانت ثورة يناير أضافت شيئا لحياتنا ومستقبلنا فهى أنها قضت على احتمال «التزويث» وهذه هى فقط البداية.