قبل شهرين كتبت هنا أشير إلى أن موضوع الانتخابات البرلمانية هو الآخر ضمن حزمة مسائل يغشاها ضباب المرحلة ويغيب اليقين عن إمكانية تحققها ، ويبدو أن الأحداث الأخيرة تشير إلى هذا المعنى ، حيث انتشرت بسرعة فكرة احتمال تأجيل انتخابات البرلمان ربما إلى أجل غير مسمى ، وقد لاحظت أن عددا من الرموز السياسية المؤيدة للرئيس عبد الفتاح السيسي تتحدث بوضوح عن ضرورة تأجيل الانتخابات البرلمانية ، والحجة الجديدة أن البلد في حالة حرب وتتعرض لمخاطر كبيرة من الجانب الشرقي حيث المعركة مع الإرهاب ومن الجانب الغربي حيث المعركة في ليبيا ، كما أتى تقرير هيئة المفوضين في المحكمة الدستورية لكي يزيد من الشكوك حول إمكانية إجراء الانتخابات ، لأن الهيئة أوصت ببطلان قانون تقسيم الدوائر بما يعني بطلان عقد الانتخابات ، وصحيح أن تقرير هيئة المفوضين لا يعتبر حكما ولكن التقرير عادة يكون كاشفا لاتجاهات المحكمة بكل تأكيد ، لأنه رأي خبرائها ، وحسنا فعلت المحكمة الدستورية بعقد جلسة النظر في الطعون يوم الأربعاء ، ولعلها تزيل أي لبس خلال وقت قصير ، فيه انتخابات أم فركش ! . ليس صعبا إدراك أن موضوع الانتخابات لا يحظى باستحسان أو استلطاف لدى السلطة الحالية ، وقد تم تأجيل أمرها مرارا وتكرارا رغم أن الدستور يوجب عقدها خلال ستة أشهر من صدوره ، ونحن الآن وصلنا إلى عام كامل تقريبا ، غير أن الرهان على المؤتمر الاقتصادي العالمي المقرر عقده في شرم الشيخ في مارس المقبل كان عنصر ضغط كبير على الرئاسة من أجل الالتزام بإنجاز الانتخابات باعتبارها الاستحقاق الثالث والأخطر في خارطة الطريق ، بعد الدستور وانتخابات الرئاسة ، ولأنه لا يوجد أحد ولا دولة تغامر بشراكة اقتصادية مع دولة لا تملك برلمانا ومؤسساتها ناقصة ، ووصل هذا التحذير واضحا للسيسي فجعله يكرر دائما أن الانتخابات البرلمانية ستعقد قبل المؤتمر الاقتصادي ، وأنه ستكون في نهاية الربع الأول من العام 2015 ، غير أن تراجع الرهان على المؤتمر الاقتصادي وعدم ظهور أي دلائل جدية على أنه سيحقق الإنقاذ المأمول للاقتصاد المصري خفف من حماسة السيسي للانتخابات وحرره من هذا الضغط . أكثر من سبب يجعل احتمالات إلغاء الانتخابات أو تأجيلها إلى أجل غير مسمى هي الطرح الأكثر معقولية ، في مقدمة ذلك أنه لا يوجد أي ضغوط على السيسي تضطره عمليا لإنجاز الانتخابات ، ولا توجد أي قوة سياسية مصرية حاليا تملك أدوات ضغط سياسي أو حتى إعلامي تحاصره أو تجبره على ذلك ، ميزان القوى السياسي مختل بوضوح ، والوضع الحالي نموذجي لرئيس الجمهورية ، فهو رئيس السلطة التنفيذية وهو رئيس السلطة التشريعية أيضا ، التشريع الذي يريده يصدره في أي وقت وأي لحظة وأي صيغة ، والتشريع الذي لا يعجبه يلغيه أو يعدله كيفما أراد ووقتما أراد ، لا معقب عليه ، كما أن "صداع" الرقابة البرلمانية منعدم ، فهو يعمل بمزاج خال من الانشغال بأي قوة أخرى ستراجعه أو تنتقده أو تحرجه أو تحاسبه ، فضلا عن أن تحاكمه أو تعزله حسب مقتضى الدستور الجديد . أيضا ، السيسي قلق من قدرته على السيطرة على البرلمان الجديد وجعله أداة للتخديم عليه وليس لتحديه وإرهاقه ، وقد حاولت جهات رسمية عدة تنسيق تحالفات أو كتل سياسية لضمان السيطرة على البرلمان إلا أن التجارب معظمها باء بالفشل ، سواء مع الجنزوري أو عمرو موسى ، ورغم الرهان الأخير "المؤقت" للأجهزة على مجموعة "في حب مصر" ، إلا أن أعضاءها ورموزها لا تملك حضورا جماهيريا يضمن لها أي كتلة كبيرة في انتخابات شفافة ، وهناك قلق حقيقي لدى السيسي من كتلتين أساسيتين : كتلة الحركة الوطنية واحتمالات عودة شفيق إلى السلطة من "شباك" البرلمان ، وكتلة رجل أعمال شهير قرر أن "يستثمر" في البرلمان الجديد لضمان حضور قوي له يخدم على طموحه المالي والسياسي في المستقبل ، وقد حدثتني مصادر حزبية موثوقة أن الرجل رصد مليون ومائتي ألف جنيه للمقعد الواحد ، وهي تكلفة تعتبر زهيدة في عملية كبيرة كتلك . هل تحسم المحكمة الدستورية الأمر بشكل قانوني ويتم إلغاء الانتخابات ، وإذا مررتها الدستورية فهل تنتصر أصوات أنصار السيسي التي تدعو لإلغاء الانتخابات لأن ظروف البلد لا تسمح بها ونحن في أجواء حرب ، أعتقد أن الأمر سيستبين في غضون أسبوعين على الأكثر ، .. والله أعلم .