أن نتغابى ونتغافل أحيانًا عن أخطاء وزلات الآخرين وخاصةً ذوي القربى والأصدقاء ترفقًا وترفعًا عن سفاسف الأمور لتسير الحياة، لهو أمر محمود وممدوح يدل على حسن الخلق وسِعة العقل والصدر وصفاء النفس إذا كان في موضعه، كأن يتغافل الوالد عن بعض أخطاء ابنه غير المعتادة فقد يكون ذلك أبلغ في تربيته ما دام بعيدًا عن الأمور التي فيها تجاوز لحدود الله، وارتكاب للمحرمات، وتقصير في الفرائض والواجبات، لأن كثرة توبيخه وزجره ربما تؤدي إلى اشتداد عزيمته في الاستمرار في الأخطاء.. وكأن يتغافل الزوج عن تقصير زوجته في أداء واجباتها أحيانا لأي سبب ويلتمس لها الأعذار، ولا يقف عند كل هفوة وكل لفظة أو انفعال يصدر عنها، وتتغابى الزوجة أحيانًا عن بعض تصرفات وألفاظ زوجها غير اللائقة - لاسيما وقت ضيقه وعصبيته، ولا يحاسب كل منهما الآخر على كل صغيرة ولا يضعه تحت المجهر ويدقق في كل شيء يخرج منه بقصد أو بدون، ولا يلومه ويعاتبه باستمرار، ويبتعد عن التفتيش في نياته وتحليل سلوكياته دائما والحكم عليها من وجهة نظره فقط، ثم يحقق معه ويحاكمه ويصدر عليه الأحكام المجحفة المبنية على تصورات وهمية أو تكبير لبعض الصغائر التي كان من الأسلم التغاضي عنها وعدم وضعها في الاعتبار.. فلا يخلو إنسان من نقص أو عيب، ومن المستحيل أن يجد كل طرف ما يريده كاملا في الطرف الآخر، وليس من المعقول أن تندلع المعارك الزوجية كل يوم وكل أسبوع لأسباب تافهة، كزيادة ملوحة الطعام، أو نسيان طلب، أو زلة لسان، أو تقاعس أحد الزوجين عن أداء واجب معين، لأن ذلك يحول الحياة إلى جحيم لا يطاق، ويرجى الخلاص منه في أقرب وقت مهما كانت الخسائر..
فكثيراً ما نسمع عن حالات طلاق بينَ زوجينِ لسبب تافه لا يقتضي الطلاق، فتتمزق على ؟أثره الأسرة ويتشتت الأبناء!.. فلو غضَّ كُلٌ منهما الطرف لما وقعَ الطلاق واستمرت العلاقة بسبب التغافل الذي هو من فقه الحياة الزوجية للحفاظ على الود واستبقاء المعروف..
ومن أعظم ما يمكن أن يُذكَر من النماذج لخلق التغافل للاقتداء والأسوة، هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم من زوجاته، عندما تقع إحداهن في خطأ أو تقصير في حقه، فقد ضرب أروع الأمثلة في الخيرية والرفق والرقة في التوجيه، فمثلاً تغافله صلى الله عليه وسلم في ذكر خطأ وقعت فيه إحدى أمهات المؤمنين، فلم يذكر كل ما حدث، وكتاب الله يصور هذا التغافل في أروع صوره فيقول عز وجل: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}، التحريم: 3
قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله: "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل"، وهو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لِما يتغافل عنه." وقالَ الإمامُ الشافعي – رحمه الله: (الكيِّس العاقل هو: الفطِنُ المتغافل). لاشكَّ أنَّ هناك مواضع يكون فيها التغافل والسكوت مذموما، وذلك إذا جَلبَ التغافل أضرارًا أو مذلةً عامة أو أقرَّ باطلًا أو غيرها، فيُذَمُّ حينها. قالَ شَهْلُ بن شيبان: وبعضُ الحلمِ عند الجهلِ تفريطٌ وخُسرانُ.. وفي الشرِّ نجاةٌ حينَ لا يُنجيكَ إحْسانُ وقولِ الآخرِ أيضًا: وفي الحلمِ ضعفٌ، والعقوبةُ قوةٌ.. إذا كُنت تخشى كيْدَ من عنهُ تصفحُ
فالسُكوتُ إذا لم ينفع؛ فالجوابُ لاشكَّ أصوب وأنفع.