مما يتم التأكيد عليه كثيرا، أن من يتعرض للكتابة العامة، لابد أن يُحَدث الناس عن " المستقبل " أكثر مما يحدثهم عن الماضى ، وأن يطرق موضوعات جديدة، ويبتعد عن الحديث المكرر، فالعالم كله يركض من حولنا، ونحن مطالَبون، بكل خطوة يخطوها العالم، أن نخطوا إزاءها خطوتين ، واحدة لتعويض ما فات، والثانية للمواكبة ... أعلم هذا علم اليقين، وأومن به ، لكن ماذا تفعل عزيزى القارئ، إذا وجدت الأعوام تمر، عقدا بعد عقد، والقضية موضوع الاهتمام والقلق على الحاضر، والطموح إلى المستقبل، ما زالت تراوح مكانها، مع خطورتها وأهميتها التى تزاد مع مرور هذه العقود؟ فى عام 1930 كان إسماعيل صدقى، الوجه المستبد المكروه من رؤساء وزراء مصر فى العهد الملكى، قد كُلف برئاسة الوزارة، انقلابا على وزارة الشعب، الوفدية، وأراد أن " يصنع " بعد ذلك حزبا ، سماه- وياللغرابة- حزب الشعب ، تماما كما كانت النظم الشمولية تسمى نفسها " الجمهورية الشعبية الديمقراطية"!! وحتى يكتمل " الديكور" طلب من الدكتور طه حسين لؤلؤة الفكر العربى على وجه العموم والمصرى على وجه الخصوص، فى ذلك الزمان ،وما بعده، أن يرأس تحرير جريدة حزب رئيس الوزراء، فإذا بالمفكر العظيم- على خلاف مفكرى ومثقفى عهد مبارك- يرفض، استجابة لضمير المفكر ،ورسالة المثقف الحقيقى ، فإذا بالمستبد ينتهز فرصة تحريض بعض النواب ضد بعض محاضرات طه حسين بالآداب، يحرض وزير المعارف( التربية الآن) على نقل طه حسين من مكانه كأستاذ، وعميد كلية الآداب بالجامعة إلى موظف بوزارة المعارف. وعلى عكس ما حدث من مسئولى الجامعة المصرية ، عدما فصلت ثورة يوليو ما يزيد على خمسين أستاذا عام 1954، وما فعله السادات فى سبتمبر عام 1981، مع بعض أساتذة الجامعات، حيث الاستسلام والرضوخ، ثار طلاب الآداب فى الثلاثينيات، حاملين طه حسين على أكتافهم هاتفين: لا عميد إلا طه حسين، وتقدم مدير الجامعة، أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد باستقالته، إذ كيف ينقل أستاذ، دون التشاور معه؟ من هنا ثارت قضية " استقلال الجامعة "، وإذا بجريدة السياسة ( الأسبوعية )، جريدة حزب( الأحرار الدستوريين)، تكتب دفاعا عن استقلال الجامعة، كلاما ما زال تاريخ صلاحيته مستمرا حتى الآن، رغم أن تاريخ نشره هو 19/3/1932 . وأستأذنك عزيزى القارئ أن أنقل إليك نص ما كتبته السياسة فى ذلك التاريخ، لا لأبث فى نفسك الحسرة على أن تمر عشرات السنين، وما زلنا " نحلم" بجامعة تتمتع بالاستقلال، ولكن لأبث فى قلبك الدافعية على أن تكون اليوم أفضل من أمس، وتقول : إذا كان أبناء مصر قد تظاهروا وكتبوا ينادون باستقلال الجامعة، منذ تسع وسبعين عاما، فيجب أن نتقدم عليهم خطوة، فلا تغمض لنا عين حتى يتم تنفيذ هذا بالفعل، لا قانونا فحسب، وإنما تنفيذا وممارسة، فعيب كبير علينا حقا، وكارثة وطنية بالفعل، أن نكون أسوأ خلف لخير سلف! قالت " السياسة " : " الجامعة ليست إدارة حكومية ، ولكنها هيئة مستقلة، أنشأتها الأمة المصرية منذ عام 1908، من غير رأى الحكومة، بل على خلاف رأيها ، لتعلم الناس على الطرائق العلمية الصحيحة، فلما أعلن استقلال مصر عام 1922 ، رأى المسئولون عن مصير الجامعة أن يتفقوا مع الحكومة ، تبعا لعقد خاص ،وقعه لطفى السيد، تضم بموجبه مدارس الحقوق والطب إلى الجامعة لتصبح كل واحدة منهما كلية يطبق فيها النظام الجامعى ، ولتنشأ كلية علوم فتنضوى تحت لواء الجامعة هى الأخرى، وفى هذا العقد تقررت للجامعة شخصيتها ، وتقرر لها استقلالها على نظام الجامعات فى أوربا ، ونظام الجامعات فى أوربا يقتضى أن لا تتدخل الحكومة فى شئون الجامعة ، وأن يكون الأمر فيها لمجلس الجامعة، ولمجالس كلياتها، ولهيئات التدريس فيها، فالتصرف بنقل عميد كلية الآداب من غير رضاه، ولا رضا الجامعة مخالف للتقاليد الجامعية ، مخالف للتعاقد بين الجامعة والحكومة، وقد كان من أثر تصرف وزير المعارف أن امتنع الطلبة عن تلقى دروسهم، وإن حاول لطفى السيد مدير الجامعة تسوية المسألة بإعادة الدكتور طه، فلما لم يوفق لذلك ، برغم اتفاق رئيس الوزارة وإياه، استقال من منصب مدير الجامعة ، وإن احتج الأساتذة على تصرف وزارة المعارف احتجاجا اتفقت فيه هيئات التدريس فى الكليات الأربع". وزادت الجريدة فكتبت " إن وزارة المعارف لا تفهم الفكرة الجامعية ، وأنها تحسب أن لا فرق بين التعليم المدرسى والتعليم الجامعى ، وأنها تتأثر بأن التعليم المدرسى ما يزال هو المتغلغل حتى اليوم فى مصر وفى العقلية المصرية ، فلا يفهم أكثر الناس الفرق بين هذا التعليم والجامعة، حتى ليقول بعضهم : أليست الجامعة خاضعة لإدارة واحدة هى إدارة الجامعة بدل أن تكون خاضعة مباشرة لوزارة المعارف( التى تقوم مقامها الآن فى ذلك وزارة التعليم العالى )؟ وما دام وزير المعارف هو الرئيس الأعلى للجامعة، كما أنه وزير المعارف، فمن حقه أن يتصرف مع الأساتذة ومدرسيها كما يتصرف مع موظفى المدارس الابتدائية والثانوية بالنقل والتأديب، والترقية والفص؟!" ثم تؤكد أن " هذه فكرة خاطئة تماما الخطأ فى تصور المعنى الجامعى ، لا يمكن معها فهم السبب الذى من أجله كفل للجامعات فى أنحاء العالم كله استقلال صحيح لكل شئونها، بحيث لا تزيد الصلة بينها وبين وزارة المعارف على أن تكون صلة رسمية تجعل وزير المعارف يوقع مع مدير الجامعة شهاداتها، ويدافع فى البرلمان عن ميزانيتها ، إذ هى فى حاجة إلى أموال الحكومة، فالجامعات ليست مدارس بالمعنى المفهوم من المدارس، وإنما هى معاهد بحث عن الحقيقة فى مختلف ميادين البحث ، معاهد يشترك أساتذتها وطلابها فى بحوثهم ، يرشد الأساتذة الطلاب ، ويدلونهم على الطريق الذى يسلكون ، ثم لا يكون لهم بعد ذلك سلطان عليهم ...". وليلاحظ القارئ أن كاتب جريدة السياسة يعى تماما أن الجامعة تمول من الحكومة، ومع ذلك ، فهذا لا يسقط فريضة استقلال الجامعة. كما لابد أن يتذكر القارئ أن هذا الكلام المنشور عام 1932، كان فى ذروة عهد عُرف " بالليبرالية " ،وليس فى العهد الاشتراكى . إن البعض يحتج بالقول بأن الجامعة ، طالما تمولها الحكومة ، فلابد ، بصورة أو بأخرى، ألا تفلت من قبضة يدها، وهذا كلام يرد عليه بالإشارة إلى نموذجين: أولهما البرلمان، فهو من تمويل الدولة بالكامل ، ومع ذلك فمن القواعد المقررة، استقلاله عن السلطة التنفيذية، بل له أن يسقط الحكومة، أو أى وزير فيها. ثانيهما : القضاء، فمعظم إنفاقه يأتى من ميزانية الدولة ، ومع ذلك فمن يمكن أن ينتقص من استقلاله الذى يعتبر علامة من علامات إقامة العدل والديمقراطية؟ وفضلا عن ذلك ، فإن الجامعة ، فى السنوات الأخيرة ، أصبحت تملك كثيرا من الموارد الذاتية ، التى تجلب لها ملايين ، من خارج خزانة الدولة، تسهم فى كثير من أوجه الإنفاق، حتى، مصروفات الطلاب، أصبحت بمئات الجنيهات، ناهيك عن مسالك لا حصر لها : تعليم مفتوح، انتساب، برامج مميزة، تعليم بلغة أجنبية ، الوحدات الخاصة، وهلم جرا... وأخيرا ، فإننا نؤكد أن الوطن الحر لا يمكن أن يستمر حرا إذا كانت منارته العلمية مكبلة بهذا أو ذاك مما ينقص من حرية حركتها ويُسلسل إرادتها...وإذا أردناها ثورة حقيقية تغزو أرجاء مصر، فلابد أن تحدث هذه الثورة أولا برأس المجتمع..الجامعة ، وإلا لجاز أن نتصور نهضة إنسان وعقله مكبل بالخرافات وصور التخلف، ومشاعر القهر والذل!! إن العبيد قد يستطيعون أن يرفعوا حجرا ضخما إلى أعلى وإلى أمام، لكنهم أبدا لا يستطيعون أن يدفعوا " خردلة " للنهوض الحضارى إلى أعلى أو إلى أمام..فقط الأحرار هم المؤهلون وحدهم لذلك!