اللهم نجنا من البلاقع الثلاث: التجهيل والتفسيق والتبديع يا رب العالمين.. ولنجعلها قضية للمناقشة، لا للتهاجي والتحقير.. ممكن؟ يا رب.. أزعم أننا نقع في أمر الاحتفاليات والأعياد - كعادتنا في كثير من الأحكام - بين تطرفين عجيبين، وخذ موضوع: العيد، وستجد الناس فريقين: *** فريقًا عنده (إسهال) في الأعياد، فلا شيء عنده ممنوع ولا مرفوض؛ حتى إنهم ليحتفلون بأعياد فرعونية، ويهودية، ومجوسية، ونصرانية، وإسلامية بدعية، وغربية علمانية! مصادمة للعقل المجرد، والشرع الصريح، والمواطنة الصحيحة! فتجد احتفالات بأبي حصيرة (قبل اكتشاف يهوديته) وسبت النور اليهوديين.. وأبي ناعون، ووفاء النيل، وشم النسيم من أعياد الفراعنة.. ورأس السنة، وعيد ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام والفالانتاين، وكذبة إبريل، وعيد الغطاس، وخميس السعف، وكل القديسين، وغيرها من الأعياد المسيحية الدينية.. بجانب النوروز أو النيروز المجوسي، الذي يوافق اليوم الأول للعام الشمسي الكردي الجديد، والتاسع لشهر مارس حسب التقويم اليوناني، والحادي والعشرين من مارس في التقويم الجريجوري، ويتساوى فيه الليل مع النهار، ويحتفل به الكرد والفرس منذ القدم.. بجانب مولد سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، ونصف شعبان، وليلة القدر، والإسراء والمعراج، والسنة الهجرية.. بجانب موالد (أولياء) بعدد شعر الرأس، حتى إن لتجار الموالد (أصحاب المراجيح والسواقي، والدراويش) أجندة سنوية يجوبون بها القطر، كسبًا للرزق، ودعوة للموتى الذين لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا! *** وفريقًا يحرم الاحتفاليات كلها – غير الفطر والأضحى – من جهة المعنى الشرعي؛ حتى لو كانت من عوائد الناس، ومظاهر بهجتهم الحياتية.. على أساس أن العيد مسألة توقيفية.. وأن الشريعة أغلقت باب الاحتفال، إلا في الفطر والأضحى وحدهما! وترى هؤلاء – مع ذلك - يتوسعون (دون النظر للشرع، وهذا عجيب) فيعتبرون عيد الفطر ثلاثة أيام أو أربعة (وبدون دليل شرعي، بل بحسب إجازة الحكومة) ويعتبرون يوم الجمعة عيدًا أسبوعيًّا مع أنه عيد بالمعنى اللغوي وحده؛ إذ إنه يعود، وفيه يجتمع الناس للصلاة؛ غير أنه ليس عيدًا بالمعنى الاحتفالي؛ فإن يوم الجمعة يوم عمل في الشريعة ككل أيام الله تعالى! (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض، وابتغوا من فضل الله)/ وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها، وتركوك قائمًا)! والحجج في التضييق والتحريم هنا: سد الذرائع، وعدم التشبه، واجتناب الابتداع! فهل لهذا وجه فعلا.. أم إن الحظر مجرد (فهم) منقول عن ناقل عن ناقل عن ناقل من مصدر واحد، وفهم واحد، إلى منتهى السند المنقطع، مع وجود إمكانية النقاش والرد!؟ فليس ثّم فيما أزعم (نصٌّ) صريح، بل (فهم) اكتسب قوة نص القرآن والسنة، وأشخاص اكتسبوا منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب الناس، فصار فهمهم نصًّا، وشخصهم مشرعًا!؟ ودعنا نتحدث في الأمر قليلاً: يتفق اللغويون والفقهاء على أن لفظة العيد اشتقت من العود، أو الاعتياد، لأنهم اعتادوه، ولأن لله تعالى فيه عوائد إحسان، تعود على المسلمين في كل يوم، كالفطر بعد المنع عن الطعام، والصدقات، وإتمام الأضاحي، والذكر، وغير ذلك. والملحوظ هنا أن المعاني كلها شرعية، لما ثبت من الأعياد بالنص من الشريعة الغراء.. لكن لو تركنا الأمر للعيد – بالمعنى اللغوي – فإن أشياء كثيرة ستحرم بمجرد عودها، واعتيادها، وانتظارها، والاجتماع لها، كدوريات الكرة في زماننا، ومواعيد المناسبات الدولية، والمؤتمرات السنوية، وما شابه.. وهذا ما لا يقول به أحد، ولا يقبله العقل.. فقد كان العرب ثم المسلمون - قبل وبعد الإسلام - يجتمعون في أيام بعينها، من كل عام، ومواسم لا علاقة لها بالدين – غالبًا - كأسواق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، والمربد الذي عُدَّ أشهر أسواق العرب بعد الإسلام (وكان سوقًا تتخذ فيه المجالس، ويخرج إليه الناس كل يوم، وتتعدد فيه الحلقات يتوسطها الشعراء والرجّاز، ويؤمّه الأشراف وسائر الناس، يتناشدون ويتفاخرون ويتهاجون ويتشاورون! وكان له شأن كبير في ذلك العصر، وظلّ على مجده هذا حتّى خربت البصرة، وتقلّص عمرانها، فخرب وصار بينه وبين البصرة نحو ثلاثة أميال على عهد ياقوت الحموي الذي ذكر هذا في معجم البلدان. وكان للمربد شأن عظيم في اللّغة، قريب من شأن عكاظ؛ لولا امتياز عكاظ بموقعه في وسط الجزيرة العربية، وبعده عن مناطق العجمة. ومهما يكن من أمر فقد كان له أثره الكبير في اللغة والأدب، حيث كان يعجُّ بالفصحاء الأعراب، وأعلام الرواة العلماء يجمعون الفصاحات ويتصيدون الشواهد التي أسس النحاة عليها قواعدهم وأصلحوها. كما كانت فيه حلقات الرجَّاز مثل رؤبة بن العجاج وأبي النجم العجلي، والشعراء مثل جرير والفرزدق وذي الرمَّة والراعي النميري. وكان المربد أيضًا ساحة مشهورة لفن خطير من فنون الشعر هو النقائض. واستمر المربد يؤدي رسالته وغرضه حتى العهد الأول من العصر العباسي. وورث مكانة سوق عكاظ وحلّ محلّه، فكان قبلة العلماء والشعراء، يأخذون عن مرتاديه ويدوِّنون ما يسمعون فكانت تلك أزهى عصوره) أ.ه. وما سمعنا أن أحدًا رفض هذا (العيد) ولا المجيء إليه، ولا الضرب عليه بخاتم التحريم، ولا القول بأنه عيد بدعي، محرم مرفوض! وفي أبي داود عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني نذرت أن أنحر إبلاً ببُوانة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد)؟ قالوا: لا. قال صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيها عيدٌ من أعيادهم)؟ قالوا: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: (فأوف بنذرك ؛ فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم). والملاحظ هنا – والله أعلى وأعلم – أنه صلى الله عليه وسلم اهتم بما لو كان هذا المكان موضع احتفالية دينية بشكل به، من خلال وجود صنم، أو عيد من أعياد الجاهلية، فلما لم يثبت من ذلك شيء، أجاز صلى الله عليه وسلم الأمر، وهو واضح! وأظن أن النهي عن الأعياد غير الإسلامية إنما جاء في الأعياد الدينية وحدها – كالأعياد التي ذكرت بعضها - خروجًا من الموافقة، والتشبه، وسدًّا لذرائع الشرك والابتداع. أما الأعياد الاجتماعية والسياسة، التي يستحدثها الناس، وفق رؤاهم القومية، أو إنجازاتهم السياسية، أو خصائصهم العرقية، أو مناسباتهم الشخصية، فكيف نطلق عليها التحريم؟ وكيف نعمم الحكم، فلا يكون إلا الفطر والأضحى وحدهما! لقد وجدت لبعض المشايخ كلامًا عاطفيًّا يسهل الرد عليه، مداره على التشبه وتقليد الكفار، وحديثه صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)! وأجزم أن الأمر هنا هو الدين وما يتعلق به (أمرنا)، مما ينسب إليه وليس منه، أما لو كان في أعمال الدنيا، أو من عوائد الناس ومظاهر بهجتهم الحياتية فلماذا يرد؟ وهل أفتى العلماء كلهم بهذا أم إن هذه الفتوى محصورة ضيقة في نفر لا يعدون على أصابع يد واحدة من المعتبرين؟ وهل ثم نصوص صحيحة صريحة في هذا، أم أنها فهوم؟ وهل يكون التحريم بالفهم والاستنباط؟ معقول؟ وهل التحريم تحريم مدارس الفقه كلها أم تحريم مدرسة واحدة (أنا من أبنائها) أردنا تعميمه على الناس أجمعين؟ وهل هذا صحيح فقهًا؟ مرة ثانية: ليس ثّم (نصٌّ) صريح، بل (فهم) اكتسب قوة نص القرآن والسنة، وأشخاص اكتسبوا منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب الناس، فصار فهمهم نصًّا، وشخصهم مشرعًا، في نفوس بعض الناس؛ وإن لم يرد هؤلاء السادة العلماء ذلك! وكيف تغيب عن عقولنا الأدوار العديدة للعيد: طعم العيد وبهجته/ الدور الاجتماعي/ الدور الاقتصادي/ الدور الترويحي.. وغيرها من الأدوار!؟ لقد لاحظت إفراط بعض الأمم في الاحتفال بالأعياد: أحيانًا لاستحياء التاريخ وتنشيط الذاكرة الشعبية، وأحيانًا لمقاومة ثقافات بعينها، وأحيانًا للإلهاء، وأحيانًا للترفيه والتجارة والتسويق، وفي أحيان كثيرة للمحافظة على ثقافة دينية محلية.. وأحيانًا للفخر والتباهي بالإنجاز، أو بالاستمرارية، كما استحدثوا العيد الخشبي (بلاش اليوبيل لأنها يهودية) احتفالاً بمرور خمس سنوات على حدث معين (كتأسيس شركة، أو زواج، أو تحقيق إنجاز كبير) فاليوبيل الصفيحي بعد مرور عشر سنين، فالكريستالي بعد خمس عشرة سنة، فالخزفي بعد عشرين سنة، فالفضي بعد خمس وعشرين سنة، فاللؤلؤي بعد ثلاثين، فالعقيقي بعد أربعين، فالذهبي بعد خمسين، فالماسي بعد ستين.. وتضفي هذه الأعياد طعمًا ثقافيًّا واجتماعيًّا، واقتصاديًّا خاصًّا، فلماذا المنع؟ أخرجوا الأعياد الدينية التي لا توافق الإسلام – فهي قطعًا مردودة مرفوضة - ثم أجيبوني: لماذا يمنع الباقي، ويسفه ويبدع!؟ والأمر متروك للمناقشة العاقلة.. رب اغفر لي وتب علي، وعلى أهلي، وعلى قارئي، ومشايخي، وعلى المسلمين أجمعين يا كريم. ------------------ قال الشاعر الداعية الكبير الشيخ إبراهيم عزت رحمه الله، في قصيدته الوجيعة التي قالها في سجنه عام 1966 بعنوان: اليوم عيد، عن معاناة أهالي السجناء في العيد، الذي يفترض أن تملأه الفرحة المشرقة، لا التياع الزوجات، وانكسار الأبناء، وهي أيضًا من روائع ما أنشد أبو مازن، بأداء قوي، ونبرة مؤثرة: اليومَ عيدْ/ قد عشتُ فيه ألفَ قصةٍ حبيبةِ السمات/ أرددُ الأذانَ في البكور/ أراقبُ الصغارَ يمرحون في الطريق كالزهور! وهذه تحيةُ الصباحْ/ وهذه ابتسامةُ الصديقِ للصديق/ والسلامُ يبسطُ اليدينِ يرسلُ الندى/ ويملأ الحياةَ بالأمان! وخضرةُ الزروع غضةَ ُ الجنى/ تجمعت أمامَ مسجدِ الإمام/ وأطيبُ الثمارِ تطلبُ الكبار/ هديةٌ يحبُّها الصغار/ تحبها صغيرتي! ما أطيبَ الزمانَ يا أحبتي إن عانق الأمانْ/ زمانُنا ربيعُه الأمان! *** الكلُّ عائدٌ بفرحة تطل مشرقة/ من الشفاه والعيون/ ودارُنا ستنتظر/ صغيرتي ستنتظر/ والشرفةُ التي على الطريقِ تسمع الصدور/ تعزف الأشواقَ تعصر الأسى! هشام لن ينام/ قد كان نومُه على ذراعِ والده/ نهادُ لن تذوق زادَها لأنها تعودت أن تبدأ الطعام من يد الأسير! شريكةُ الأسى بدا جناحُها الكسير/ تخبّئ الدموعَ عن صغارها/ وحينما يلفها السكون/ سترتدي الصقيعَ كي تقدم الحياة للرضيع. ما زال يومنا ويومهم/ لأننا نحبهم/ اليوم عيد. [email protected]