من أهم النتائج التي أسفر عنها نجاح الفلسطينيين في إجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة هو أن هذا النجاح يتيح " فرصة خلاقة" يمكن أن تقود إلى تحول نوعي عملاق في مسار القضية الفلسطينية إذا ما أحسنت حماس وبقية الأطراف المعنية جميعها التعامل معها ووظفتها في الاتجاه الصحيح. وجوهر هذه الفرصة الخلاقة يتمثل في القدرة على الجمع بين التعهدات الدولية للسلطة الفلسطينية والمقاومة المسلحة بثوابتها الوطنية. فقد أثبتت خبرة أكثر من عشر سنوات أن السلطة وحدها لم تحقق شيئاً وأن الشعب الفلسطيني خسر أكثر مما ربح في ظلها، كما أثبتت تلك الخبرة أن المقاومة المسلحة وحدها لم تحقق الهدف النهائي بتحرير الأرض وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وإن كانت قد أنجزت خطوات على هذا الطريق بإجبار الاحتلال على الانسحاب من قطاع غزة. وفي تقديرنا أن نجاح الديمقراطية الفلسطينية وفوز حماس بصفة خاصة هو أبلغ رد عربي حتى الآن على مفهوم "الفوضى الخلاقة" الذي ابتدعته السياسة الأمريكية قبل أكثر من عام وقصدت به خلخلة الأوضاع القائمة في منطقة الشرق الأوسط بأعمال متنوعة، مشروعة وغير مشروعة، علنية وخفية، وذلك من أجل إتاحة الفرصة أمام عملية الإصلاح والتغيير على النحو الذي يحقق الأهداف الأمريكية في المنطقة أساساً. وتتجلى بلاغة الرد الديمقراطي الفلسطيني على "الفوضى الخلاقة" فلسطينيا على الأقل في أنه قال بصريح العبارة إننا لا نريد الفوضى الخلاقة على الطريقة الأمريكية، ولا نوافق عليها، وإنما نريد "فرصة خلاقة" من أجل البناء والإصلاح والسلام القائم على العزة، لا على الذل والاستسلام والتنازلات التي لا نهاية لها.وتتجلى بلاغة الرد الديمقراطي الفلسطيني أيضاً في أنه يثبت فشل السياسة الأمريكية التي وعدت العالم ببزوغ نموذج ديمقراطي من العراق، لم يدخر الأمريكان وسعاً في صوغه ودعمه بكل قوة ، فإذا بالنموذج يبزغ من فلسطين التي تتحيز السياسة الأمريكية ضدها بكل قوة لصالح الجانب الإسرائيلي. إن النموذج الديمقراطي الفلسطيني يلقن في الوقت ذاته أعضاء اللجنة الرباعية درساً في حرية الاختيار وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ويثبت للعالم بأسره جدارة الشعب الفلسطيني بأن يتحمل مسئولية إقامة دولته المستقلة والتمتع بحقوقه كاملة غير منقوصة. الفرصة الخلاقة التي أتاحتها الانتخابات الفلسطينية قوبلت مع الأسف الشديد ب "حملة ترويع" تشنها أطراف متعددة لا لشيء إلا لأن حماس هي التي وقع عليها اختيار الشعب الفلسطيني وحملها مسئولية قيادته في المرحلة المقبلة . وتأتي إسرائيل والولاياتالمتحدة وبعض الدول الأوربية في مقدمة الذين يشنون حملة الترويع، والتهديد تارة بقطع المساعدات التي تشكل أكثر من 65% من ميزانية السلطة ، وعدم التعامل مع السلطة الفلسطينية ممثلة في الرئيس محمود عباس تارة أخرى، والضغط على حماس من أجل حشرها في زاوية التنازلات والتخلي عن هويتها وتعهداتها مع شعبها حتى قبل أن تشكل الحكومة الجديدة. وبدلاً من النظر إلى "الفرصة الخلاقة" التي يتيحها هذا الإنجاز العظيم الذي حققه الشعب الفلسطيني، يحاول المشاركون في حملة الترويع ومن يتبنى وجهة نظرهم تهيئة الأجواء لنوع من الفوضى الداخلية على الساحة الفلسطينية، ويحاولون كذلك تصوير نجاح حماس على أنه بداية لفصل جديد من المآسي التي ستقع على رأس هذا الشعب الصابر المجاهد عقاباً له على اختياره الديمقراطي الحر. وبعيداً عن ردود الفعل المصدومة من نتيجة الديمقراطية الفلسطينية "النموذجية" بكل المقاييس، فإن حملة الترويع من فوز حماس لن تنجح في إخفاء ملامح الواقع الجديد الذي بدأ يتشكل على الساحة الفلسطينية، ولن تنجح كذلك في وقف تأثيرات هذا الفوز على مجمل الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم على مواقف القوى الدولية المعنية بهذه المنطقة وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوربي. أول ملامح الواقع الجديد على الساحة الفلسطينية هو وجود "ممثل شرعي ديمقراطي"، يمكنه أن يتحدث باسم الشعب الفلسطيني بناءً على تفويض انتخابي حر شاركت فيه جميع القوى والفصائل لأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية. صحيح أن منظمة التحرير قد اكتسبت صفة الممثل الشرعي والوحيد، ولكن كان ذلك بناء على قرار من النظام الرسمي العربي في قمة الدارالبيضاء عام 1974، وقد أدى هذا القرار مهمته واستنفذ الغرض منه، بكل ما له وما عليه، وجاءت الانتخابات الأخيرة لتفتتح مرحلة جديدة في تاريخ القضية الفلسطينية، يقودها ممثل شرعي؛ ليس وحيداً ، ولكنه يستمد شرعيته من الإرادة الحرة للشعب الفلسطيني، الذي هو مصدر السلطات بحسب النظرية الديمقراطية التي تنادي بها السياسة الأمريكية المعلنة على الأقل. الملمح الثاني في الواقع الفلسطيني الجديد هو اتجاه حماس نحو الجمع الخلاق بين اعتبارات الواقعية السياسية والتمسك بنهج المقاومة والثوابت الوطنية في الوقت ذاته. ويظن كثيرون أنه هذا التوجه فرضه فقط وصول حماس إلى موقع السلطة عبر الانتخابات الحرة، ولكن الحقيقة هي أن هذا التوجه كانت حماس قد بدأته قبل حوالي عام تقريباً عندما قبلت الدخول في هدنة، واستمرت في التمسك بها رغم الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة لها، وعبرت عنه أكثر من مرة بقبولها على لسان قادتها إقامة الدولة الفلسطينية على أساس مقررات الشرعية الدولية، والقبول بهدنة طويلة الأمد، وذلك كحل مرحلي في ظل الظروف الدولية الراهنة. ومن المؤكد أن فوز الحركة في الانتخابات ودخولها في صلب النظام السياسي الفلسطيني عبر صناديق الاقتراع وعلى غير رغبة من القوى الدولية الكبرى سيجعلها أكثر قدرة على الجمع الخلاق بين نهج المقاومة والعمل السياسي المسئول انطلاقاً من التفويض الشعبي الفلسطيني. الملمح الثالث هو انتقال "الارتباك والتأزم" كصفة ملازمة للساحة الفلسطينية طوال المراحل السابقة، إلى الأطراف الأخرى وفي مقدمتها إسرائيل والولاياتالمتحدة والاتحاد الأوربي. ففي حين اتسمت ردود فعل هذه الأطراف بالتشنج وفقدان التوازن، وربما فقدان المباديء إزاء عملية ديمقراطية بالغة النزاهة والشفافية، نجد أن الساحة الفلسطينية تسودها حالة نادرة من الاتزان والانسجام بعد الانتخابات بين مختلف القوى والتيارات السياسية ، ولم تكن ساحة التفاعلات الفلسطينية الداخلية بمثل هذا الانسجام والتوازن في أي وقت مضى، ولابد من القول بأن الداعم الأكبر لهذه الحالة الجديدة هو الموقف المسئول الذي عبرت عنه السلطة ممثلة بالرئيس محمود عباس، وحركة فتح، إلى جانب بقية الفصائل والقوى الفلسطينية الفاعلة. إن حالة الاتزان والانسجام التي تتسم بها التفاعلات السياسية الفلسطينية الداخلية من شأنها أن تفسح المجال واسعاً لتعظيم المكاسب التي يمكن تحقيقها عن طريق استثمار هذا النصر السياسي الرائع الذي أنهى الأسطورة القائلة بأن إسرائيل هي واحة الديمقراطية الوحيدة وسط صحراء الدكتاتوريات العربية. صحيح أن حماس والسلطة ومعهما الشعب الفلسطيني أمام تحديات كبيرة، ولكنهم أبداً ليسوا في مأزق كما يحاول البعض تصوير الموقف الراهن على الساحة الفلسطينية. والفرق بين المأزق والتحدي هو أن المأزق يدفع بالسلوك السياسي إلى مواقع ردود الفعل على مبادرات الأطراف الأخرى، ويجعل هذا السلوك أسيراً لضغط ضيق الوقت المتاح وسرعة الإنجاز المطلوب، أما التحدي فهو حالة تدفع بالسلوك السياسي إلى مواقع المبادرة، وتجعله أكثر قدرة على استنهاض القوى المتاحة داخلياً وخارجياً، وتحقيق درجة أعلى من التماسك الوطني دون الشعور بضغوط ضيق الوقت وإملاءات الأطراف الأخرى المنخرطة في الشأن الفلسطيني. ونعتقد أن حماس تدرك هذه الحالة الجديدة إدراكاً جيداً، وتعرف أنها أمام فرصة خلاقة، وتتصرف في الوقت ذاته من منطلق الشعور بأنها أمام تحديات كبيرة. ودليلنا على ذلك هو أن السلوك السياسي لحماس منذ اللحظة الأولى لإعلان فوزها في الانتخابات يؤكد أنها تسعى لاستغلال قوة الدفع التي ولدها الحراك الديمقراطي الفلسطيني من أجل تشكيل رؤية سياسية جديدة تقوم على ثلاثة أسس هي: 1 إصلاح الواقع الفلسطيني وتغييره للأفضل، التزاماً ببرنامجها الانتخابي أمام شعبها. والتحدي الأكبر الذي تواجهه حماس هو إصلاح الوضع الاقتصادي، والتخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني، وهذا يتطلب ابتكار أدوات جديدة للتغلب على نقص الموارد المالية في حال نفذت الجهات المانحة تهديداتها بقطع المساعدات المالية. 2 حماية المقاومة التي التف حولها الشعب الفلسطيني، و أثبتت فاعليتها في انتزاع حقوقه. والتحدي الأكبر هو ضبط الأمن الداخلي، والسعي في الوقت ذاته من أجل جمع فصائل المقاومة المسلحة في جيش موحد للتحرير الوطني. ولا شك أن النجاح في بناء جيش موحد للتحرير الوطني سيمكن من الخروج من حالة الفلتان الأمني، ويضع لبنة قوية في بناء الدولة الفلسطينية المستقلة. 3 ترتيب البيت الفلسطيني ومؤسساته على أساس مبدأ الشراكة، ونبذ تقاليد الانفراد والإقصاء من المؤسسات الفلسطينية كافة، وفتحها أمام القوى والتيارات السياسية الفلسطينية دون استثناء، وعدم تكرار أخطاء الماضي. والتحديات على هذا المستوى كثيرة جداً وتتطلب من حماس ضمن ما تتطلب تخفيض تناقضاتها مع بقية الفصائل إلى الحد الأدني أو ما هو دونه، وتقسيم الأدوار معها، وبخاصة مع حركة فتح التي تحتل المرتبة الثانية بين القوى الفلسطينية بعد حماس. والسؤال المهم الآن لا يتعلق برغبة حماس في التعامل الإيجابي مع "الفرصة الخلاقة" التي صنعتها إرادة الشعب الفلسطيني، فكل المؤشرات تؤكد على حرص حماس على تنمية هذه الفرصة وتفعيلها إلى أقصى حد لتحقيق آمال وطموحات الشعب الفلسطيني، ولكن السؤال يتعلق بمجمل الظروف الدولية والمعطيات الإقليمية وهل هي ملائمة للسير في طريق الفرصة الخلاقة؟ إذا بدأنا بالساحة الدولية سنجد أن صعود حماس إلى السلطة جاء في لحظة أضحت فيها القوى الدولية أكثر استعداداً لتفهم حقوق الشعب الفلسطيني من أي وقت مضى، بما في ذلك الولاياتالمتحدة وهي الفاعل الرئيسي في القضية، ومع اختفاء شارون ستقل فاعلية التأثير السلبي الذي كانت تمارسه إسرائيل على صانع القرار الأمريكي، وبالتالي سيكون باستطاعة السياسة الأمريكية أن تمارس تأثيراً أقوى على إسرائيل. وتدعم هذا التوجه الدولي المبادرة الروسية بدعوة حماس لزيارة موسكو، والتأييد الفرنسي، ثم الباكستاني. ومن المتوقع أن تزيد الانفراجة الدولية في التعامل مع حماس، ولن يمر وقت طويل حتى تتغلب لغة الواقعية السياسية، ليس من الطرف الفلسطيني وحده هذه المرة ممثلاً في حماس، وإنما من الأطراف الدولية الفاعلة أيضاً، وهي التي ظلت طول الوقت تضغط على السلطة الفلسطينية باسم الواقعية ولم تقدم لها شيئاًُ في المقابل. وكلما زادت الانفراجة في التعامل بين حماس والمجتمع الدولي، ستضعف مواقف الأطراف الفلسطينية الداخلية، وخاصة في أوساط حركة فتح التي ترفض تلبية دعوة حماس للمشاركة في تحمل مسئوليات الحكم في المرحلة المقبلة، وستقوى بالتالي فرصة إقامة حكومة وحدة وطنية. أما على الساحة الإقليمية فإن من مصلحة أغلب النظم العربية التعامل مع حماس ، لأن التخلى عنها في هذه الظروف سوف ينعكس سلبياً ليس على شرعيتها فقط ، وإنما على الاستقرار الداخلي أيضاً وخاصة مع صعود المد الإسلامي في أغلب هذه البلدان. أضف إلى ذلك أن اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي أضحت تميل إلى مزيد من الاعتدال، بعكس ما كان الحال في السابق، وأضحى انهيار السلطة الفلسطينية إذا ما حدث نتيجة مقاطعة حكومة تشكلها حماس هو أخوف ما يخافه ساسة إسرائيل لأن معناه هو الرجوع إلى ما قبل أوسلو والقضاء نهائياً على الخيار السياسي، ومواجهة بديل واحد هو المقاومة المسلحة الذي ستشارك فيه جميع الفصائل. [email protected]