عن العشوائيات فى مصر أتحدث: وقد بدأتُ أهتم بالجانب النظري منها ضمن قراءات سابقة فى ثمانينات القرن العشرين أتيحت لى خلال دراسة أهداها إليّ الصديق الراحل الدكتور"السيد الحسيني" أستاذ علم الاجتماع بجامعة قطر، ثم رئيس قسم الاجتماع ووكيل كلية الآداب بجامعة عين شمس.. وكان قد قام بهذه الدراسة ضمن برنامج عالمي تبنّته الأممالمتحدة فى ذلك الوقت.. كشف فيها البحث عن بدايات نشوء العشوائيات (خلال الانفتاح الاقتصادي فى عهد السادات) فى مناطق قد لا يتوقعها القارئ مثل حي الوايلى.. وقد رصد الدكتور الحسينى ظهور مصطلحات جديدة مع هذا التطور العشوائي كمصطلح [مَطْرح] أي غرفة واحدة فى شقة ، بمعنى أن الوحدة السكنية لأسرة من الطبقة (المتوسطة الدنيا) لم تعد شقة كاملة بل مجرد غرفة واحدة يشترك قاطنوها مع سكان الغرف الأخرى ، الذين قد يصل عددهم إلى عشرين شخصا ، فى دورة مياه واحدة ، لقضاء الحاجة.. وتتناول الدراسة بالتحليل الرقمي أيضا ظاهرة سُكنى الأحياء فى مقابرالموتى.. وهى ظاهرة ليس لها نظير فى العالم بأسره.. باستثناء ما ورد فى قصص ورحلات السندباد البحرى فى أزمان وأماكن أسطورية .. عندما دُفن السندباد فى مقبرة زوجته بعد موتها كعادة أهل البلد ؛ إذا ماتت الزوجة دُفن معها زوجها حيًّا ، كنوع من الوفاء الإجباريّ..
وعلى بشاعة الفكرة.. وواقعها الأبشع فى القاهرة.. إلا أن هذا الواقع (أعنى سُكْنى المقابر) يعتبر حالة من الرفاهية يُحسد أصحابها عليها إذا ما قورنت بالحالات المروّعة التى نقلتها كاميرات برنامج متميّز للإعلامي عمرو الليثى بعنوان "واحد من الناس" .. شاهدتها بالمصادفة وانا أتناول طعام العشاء فصدمتنى وتقلصت أمعائى وأصبت بحالة من الغثيان والدوار..
كنت أظن أن مارأيته ليس قطعة من مصر وإنما من كوكب آخر تبثّه قناة كونية.. ظهر هذا البرنامج فى غضون كارثة إنهيار صخور جبل المقطم على سكان الدُّوَيْقَة، التى دُفن مئات من أهلها تحت الأنقاض وعجزت أجهزة الدولة أن تنقذهم .. وما صاحب ذلك من مظاهر بلادة الحس وانعدام الضمير والمشاعر لإنسانية ، التى طبعت سلوك السلطات المسئولة.. ولكن عشوائية [تبة فرعون] بمنشية ناصر التى شاهدتها فى برنامج "واحد من الناس" فاقت جميع الكوارث والمآسي التى اتسم بها هذا العهد النّكد .. كان عمرو الليثى يصف بالكلمة والصورة .. ويعرض وجوها بائسة قانطة لواقع لا علاقة له بدنيا البشر.. يقول: يسكن هذه المنطقة: آلاف الأسر المصرية.. يعيشون فى مساكن أقاموها بأنفسهم من الأخشاب القديمة البالية بأسقف من الصفيح والكرتون يضيفون إليها مزق من البلاستيك والأتربة لتثبيتها فى محاولة لحماية أطفالهم وأنفسهم من مطر الشتاء .. ولكن هيهات..! وحتى لو هربوا من المطر فإن الحشرات القاتلة من العقارب والثعابين تقتحم عليهم مساكنهم فى الليل فتقتل صغارهم وتروّع كبارهم.. هذه المنطقة تحوطها التلال من كل ناحية.. وتكاد تختنق بالروائح الكريهة المنبعثة من أكوام الفضلات والتفايات العفنة.. ليس فى تبة فرعون ماء نظيف ولا صرف صحي ولا إضاءة ولا كهرباء ولا أى مرفق من مرافق الحياة يدل على أن هناك بشر..
قد تسأل مالذى جاء بهذا العدد الكبير من الناس، ومنذ متى..؟! يقول سكان الخرابة أنهم ضحايا زلزال حدث سنة 1992وقد جيء بهم قهرا إلى هذا الجحيم كإيواء مؤقت لحين إقامة مساكن لهم.. هذا [المؤقت..] امتد الآن(2009م) على طول سبعة عشر سنة كاملة.. ولا يبدو فى الأفق أي شعاع من أمل فى تسلّم مساكنهم.. فأين هذه المساكن البديلة..؟! - ترينا كامرات البرنامج عمائر جديدة على مرمى غير بعيد من الموقع غير مسكونة .. تبدو كاملة البناء.. ويقول الضحايا: إنها مكتملة هكذا منذ عدّة سنوات.. ولكن السلطات تماطل فى تسليمها لنا . ويقول بعض الشبان: " الحكومة استخسرتها فينا بعد أن تمّ بناؤها" .. كان محافظ القاهرة يعرف المشكلة.. ولكنه رفض الاستجابة لدعوة صاحب البرناج التليفزيونى لمناقشتها والرد على استفسارات الضحايا وشكاواهم..
وبعد هل تتصور أن هذه السلطات تكلفت فى بنائها شيئا...؟! الحقيقة التى تجنب مقدم البرناج التطرّق إليها -خجلا أو تحسّبا من المساءلة- أن تكاليف بنائها كان مصدره تبرعات جاءت من البلاد العربية الشقيقة .. هذا على الأقل ماعلق بذاكرتى من موضوع ضحايا الزلزال.. وكأن مماطلة السلطات فى علاج المشكلة لأكثر من ربع قرن مقصود بها بث روح الإحباط واالقنوط التام عند الضحايا حتى يتركوا المنطقة الموبوءة ويتفرقوا بعيدا فى شعاب الأرض كما تفعل إسرائيل مع أهل غزة والضفة.. فإذا هاجروا أو تبدّدوا استولت عليها السلطات لحساب المستعمرين الصهاينة هناك ولحساب الأغنياء المترفين هنا .. وليذهب الضحايا من الفقراء إلى الجحيم ..
حقيقة أخرى من الحقائق المخزية.. أن النساء والأطفال يضطرون للحصول على حاجتهم من الماء أن يسيروا مسافات طويلة عدة مرات فى اليوم لشراء الماء فى جراكن تتراوح أسعارها بين خمسين قرشا إلى خمسة وسبعين قرشا للجركن الواحد.. وتحتاج كل أسرة عددا منها كل يوم.. وهى أسر فقيرة أو قل إنها معدمة.. والأكثر خزيا أن الماء موجود فى خزان مياه جديد قائم على بعد أمتار من الموقع ولكنه محرّم عليهم.. يقول بعض السكان: كل ما نريده أن نعيش فى المساكن التى إقيمت لنا فى مشروع أطلقوا عليه مساكن سوزان مبارك.. أن نعيش نحن وأبناؤنا فى مأوى إنسانى آمن تحت سقف حقيقي.. أن نحصل على أبسط حقوقنا فى العيش كآدميين ..!
تقول سيدة: لقد فقدتُ ابنتيْ ؛ ماتتا من لدغ العقارب السامة.. وتقول أمّ أخرى: إبنى الوحيد عمره ثلاثة أعوام مريض بالتهاب الكبد الوبائى والكلى بسبب المياه القذرة التى نضطر لشربها، وكل ما يحصله زوجى من العمل اليومي الشاق لا يكاد يغطى ثمن الأدوية اللازمة لعلاج ابننا.. هنا.. نرى نماذج من البشر أُجبروا على العيش فى واحدة من البؤرالعشوائية بالقاهرة.. عشوائية يرجع الفضل فى إقامتها ثم إهمالها إلى الدولة التى قذفت بضحايا الزلزال قسرا إليها من أول الأمر.. هذه البقعة الجهنمية من أرض مصر تستحق أن يُرفع عليها لافتة مكتوب عليها: "مرحبا بكم فى جهنم.." وهي لافتة استوحيْتها من لافتة مماثلة كانت مرفوعة على معسكر للاجئى البوسنة الهاربين بحياتهم فرارًا من المجازر الصربية..
من انطباعات الطفولة المبكرة التى تفجرت فى عقلى إزاء "تبّة فرعون" وتداعياتها فى الذاكرة ، هذه السورة القصيرة جليلة المعنى من القرآن الكريم ، كنت أرددها طفلا بقوة وحماس وأنا خارج من الكُتّاب .. أُباهى بحفظها قرنائى من الأطفال، وإن كنت لم أفهم معناها فى ذلك الوقت ، وإنما أسَرَنِى جرْس كلماتها ووقْعها الموسقيى الأخّاذ : " تبّت يدا أبى لهب وتبّ .. ما أغنى عنه ماله وما كسبْ .. سيصلى نارًا ذات لهبْ.. وامرأته حمالة الحطبْ .. فى جيدها حبل من مسدْ " .
الآن أصبحت أفهم معناها جيدًا ، وأدرك أن مصر كلها قد أصبحت عشوائية هائلة مترامية الأطراف ، إسمها "تبّة فرعون" عليها لافتة كبيرة مكتوب عليها: "مرحبًا بكم فى جهنم"..! وعلينا أن ننسى تماما تلك اللافتة القديمة المتهرّئة ، التى لا تزال معلقة على باب مطار القاهرة الدولى "أدخلوها بسلام آمنين".. فلم يعد –هنا- أمن ولا سلام ولا دولة..!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.