يقولون إن أوروبا التي انتمى إليها وعمل طويلا من أجلها وأجل ثقافتها لم تعد تعطيه الكثير مما كان يأمل منها.. وأخذ يبحث عن الظاهرة الأولية للدين - أى دين- في الأديان المختلفة مقبلا عليها جميعا في قوة من العقل وخصب من الوجدان وفسحة من أفق الفكر فقال مقولته الشهيرة (إذا كان الإسلام معناه التسليم لله فعلى الإسلام نحيا ونموت جميعا) إنه يوهان فولفجانج جوته (1749-1832) صاحب (الديوان الشرقى للمؤلف الغربى) الألمانى ابن فرانكفورت الذي شغف بالإسلام وشريعته والقرآن وبلاغته ومحمد ورسالته.. وعزم عند بلوغه السبعين على الاحتفال بالليلة المقدسة التي نزل فيها القرآن الكريم.. ليلة القدر.. رفض فكرة الصلب.. وكتب مئات الصفحات يمجد فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم.. وصف أمة العرب بأنها أمة شجاعة باسلة لا تهاب الموت بل إن الموت يهابها.. أدرك عالمية الإسلام فقال: (ما كان لهذا الفيض النورانى أن يبقى مقصورًا على الصحراء يغيض في رمالها وتمتصه شمسها ويصده الكثيب). اقرءوا أيضًا وصفه للحظة تنزل الوحى على النبى الكريم (حينما كان يتأمل الملكوت جاءه الملاك على عجل.. أتاه ومعه النور.. اضطرب من كان يعمل راعيًا وتاجرًا فهو لم يقرأ من قبل والملاك أمره بقراءة ما هو مكتوب.. وأمره ثانية: اقرأ...فقرأ..). يصور جوته، شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم (كنهر بدأ يتدفق رفيقا رقيقا هادئا ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد فيتحول في عنفوانه إلى سيل عارم يجذب إليه جميع الجداول والأنهار المجاورة ليصب الجميع في زحفها الرائع في بحر المحيط..) ويبدو واضحا هنا الحالة الرمزية التي تأثر بها جوته من قراءته لديوان حافظ الشيرازى وكتابته عنه..
يقول أيضًا واصفا الرسول صلى الله عليه وسلم (محمد نبى مرسل لغرض مقدر مرسوم يتوخى إليه أبسط وسيلة وأقوم طريق وهو إعلان الشريعة وجمع الأمم من حولها.. فالكتاب المنزل على محمد إنما بعث للناس ليحفزهم للإيمان بالله). حين قابل نابليون الذي احتلت جيوشه ولاية فيمار الألمانية.. سأل الجنرال جوته عن كتاب (محمد) لفولتير- ويبدو أنه لم يكن يعجبه - والذي يصور الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (سفاكًا للدماء غادرًا لا خلُق له) صلى الله عليه وسلم، قال له إن ذلك كان مجرد تَمويه لمهاجمة الكنيسة من غير السقوط تحت طائلة الرقابة القانونية وهو ما وافقه عليه نابليون.. وانتهى الحديث الذي اقترب من الساعة وبمجرد خروج جوته التفت نابليون إلى من معه قائلًا عبارته الشهيرة: (إنه إنسان). سيكون علينا أيضا أن نعرف ما قاله أحد أشهر الفلاسفة الألمان جوتفريد هردر(1744-1803) عن الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه (أفكار) يقول (عقيدة التوحيد التي دعا لها وطريقة عبادته للإله الواحد عن طريق الوضوء والصلاة وعمل الخير إنما تشير إلى أننا أمام رجل عظيم). فضلا عن ذلك تحدث هردر كثيرًا عن المستوى الثقافي والحضاري الرفيع الذي بلغه المسلمون وأخلاقيات التطهر التي يحرص عليها المسلمون وتحريم الخمر واجتناب الربا والميسر. سيكون على فولتير بعد أن كتب مسرحية (محمد والتعصب) التي لم تعجب نابليون وجوته.. أن ينتقل مائة وثمانين درجة.. فيقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم (إن دينه حكيم وصارم وطاهر وإنساني.. حكيم لأنه لا يسقط في جنون الإشراك بالله وليس فيه طلاسم.. وهو صارم لأنه يحَرم القمار والخمر ويأمر بخمس صلوات في اليوم.. وهو طاهر لأنه يحدد عدد الزوجات بأربع.. وهو إنساني لأنه يأمر بالصدقة أكثر من الحج.. وأضيف إلى خصائص الحق هذه سمة أخرى هي التسامح.. كل هذه الشرائع الحازمة وهذه العقيدة البسيطة جلبت للإسلام الاحترام والثقة وخاصة عقيدةَ التوحيد التي تخلو من التعقيد.. بل هي مناسِبة تماما للعقل الإنساني كل هذا جعلَ عددًا كبيرًا من الأمم تعتنق هذا الدين.. من سود أفريقيا إلى جزر المحيط الهندي). فى كتابه الشهير (القاموس الفلسفي) يقول أيضا (أقولها لكم مرة أخرى أيها الجهلة الحمقى الذين أقنعهم جهلة آخرون: بأن الإسلام دين شهوانى.. إن هذا ليس صحيحًا لقد خَدعوكم في هذه المسألة كما في مسائل متعددة أخرى.. أيها القساوسة والأحبار: لو فرض عليكم أن تمتنعوا عن الطعام والشراب من الرابعة صباحًا إلى العاشرة مساء في شهر يوليو عندما يصادف الصيام هذا الشهر ولو منع عنكم القمار بكل أنواعه ولو حرمت عليكم الخمر ولو كتب عليكم الحج في الصحراء المحرقة ولو أَمرتم بإخراج اثنين ونصف من دخلكم للفقراء ولو اقتصَرتم على أربع زوجات أنتم الذين ألفتم التمتع بثمانيَ عشرة امرأة هل يمكن - بكل صدق - أن تقولوا عن هذا الدين: إنه شهواني؟). ........ هذه هي بعض من آراء أهم عقلين تقريبًا أنتجتهما الثقافة الأوروبية. أوروبا تشعر بالخطر الحقيقى من تغلغل الإسلام في أوروبا وانتشاره.. وهناك الكثير من الكتابات التي تحذر أوروبا من أنها ستصبح ذات أغلبية من المسلمين إذا استمر زيادة أعداد المسلمين بنفس المعدل خلال قرن على الأكثر.. مع انسحاب فكرة الزواج وتكوين أسرة من ثقافة أبنائها. هناك عملية تخويف وتفزيع يومية ومستمرة من المسلمين تدعو وتبرر كل ممارسات الإقصاء والإفقار والتهميش لهم.. وفي فرنسا بالذات هناك العديد من الكتابات تحذر من وصول المسلمين للحكم خلال سنوات معدودة.. ولن ننسى موقفهم المتطرف من اختيار المرأة لملبس معين لها.. في حين أنهم يتسامحون مع (السارى) الهندى مثلا.. في ألمانيا أيضا لا ينقطع التحذير السياسي والحزبي والفكري والإعلامي يوميًا من المسلمين وهناك سلسلة مظاهرات الأسبوعية (يوم الاثنين) لما يسمى حركة "بيجيدا"..(الوطنيون الأوروبيون ضد أسلمة بلاد الغرب). عند هجمات الحادي عشر من سبتمبر هبت على العالم الإسلامي مرحلة جديدة من الحروب تم خلالها إسقاط دولتين (العراق وأفغانستان) إسلاميتين وتدميرهما وتفتيتهما.. وحينها خرج بوش الابن ليقول إنها حرب صليبية جديدة وإن من ليس معنا فهو ضدنا. اليوم بعد حادثة صحيفة (شارلي إيبدو) يرى البعض أننا على أعتاب مرحلة جديدة أيضا تشبه في تداعياتها تداعيات ضرب برجي التجارة في أمريكا.. أو يراد لها أن تبدو كذلك.. ويقولون إن الهدف من كل ذلك إيجاد حالة من الاستنفار العالمي.. يكون داعمًا لعملية اجتياح عسكري كبرى تطال بعض الدول العربية والإسلامية، ربما يبدو ذلك منطقيا.. لكن الثقافة الاستعمارية العتيقة لأوروبا تختلف كثيرًا عن مثيلتها الأمريكية. الغرب الأوروبى لديه معرفة قوية بنمط التفكير الإسلامي والعربي ومع تجربة أمريكية صعبة للغاية وما زالت تداعياتها على السياسة الأمريكية تزداد سوءًا.. تصبح قراءة التدخل العسكري ضعيفة.. وإن لم يكن بعيدًا وإنشاء فرنسا لقاعدة عسكرية كبيرة لها في النيجر على بعد 200 كم من الحدود الليبية ربما يشير إلى ذلك. رد الفعل الفرنسي والأوروبي على تلك الحادثة بشكل عام سيكون مختلفًا جذريًا عن رد الفعل الأمريكي الذي كان موجهًا للخارج بدرجة كبيرة.. رغم ضخامة الحادثة داخليا إلا أن الساحة السياسية أو القانونية فى أمريكا لم تشهد تضييقا بشكل كبير ضد المسلمين في الداخل الأمريكي. الأمر سيكون مختلفا في أوروبا ذات الخبرة الاستعمارية والتي تضم بلدانها كتلة إسلامية كبيرة ضمن سكانها.. رد الفعل سيكون داخليًا أكثر منه خارجيا.. سيكون هناك تضييق ومحاصرة وملاحقة لكل ما من شأنه أن يقدم الفكرة الإسلامية للإنسان الأوروبي.. وحتى على الصعيد الخارجي سيكون موجهًا تجاه تغيير بنية منظومة القيم الإسلامية أكثر منه عسكريا وستساعدهم الأنظمة العربية في توسيع تلك المنظومة والعزف اليومى على نوتتها وهم أصلا يرغبون في ذلك لأسبابهم الخاصة سياسيا.. كون المفاهيم الإسلامية بطبيعتها تحض على الحرية ومحاصرة الفساد. لم تغب إسرائيل بأدواتها وأذرعها الخبيئة عن ما حدث ويحدث.. وهو ما جعل عددًا من المراقبين الفرنسيين يتساءلون كيف كان لصحيفة (عشرون دقيقة) الفرنسية أن تنقل ما حدث.. بعد وقوع الحادث بثلاث دقائق! أو أن تقوم وسائل إعلام إسرائيلية بتحديد هوية الفاعلين بعد خمس عشرة دقيقة من الهجوم! رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعلن من فوره.. (أن طاقمًا وزاريًا إسرائيليًا خاصًا تم تشكيله من أجل دفع الخطوات التي تهدف إلى زيادة الهجرة لإسرائيل من فرنسا ومن سائر الدول الأوروبية.. التي تواجه المظاهر الفظيعة للمعاداة للسامية) ويزيد قائلا (أقول لجميع اليهود في أوروبا دولة إسرائيل ليست اتجاه قبلتكم فحسب.. بل هي بيتكم أيضا). (الوكالة اليهودية) ذكرت على موقعها الإليكتروني أن عدد اليهود في أوروبا بنحو مليون ونصف المليون شخص من بينهم نحو 600 ألفًا فقط يعيشون في فرنسا.. كما بدأت ستبقى.. ولنتذكر جميعا كيف تم دفع اليهود عند تأسيس إسرائيل للهجرة من أوطانهم الأصلية.. لقد أعقبت عملية شارلي إبيدو حالة من الضجيج والهياج الإعلامي العالمي تداعى له كل الزعماء والرؤساء وكأنه حفل توقيع على بياض لما ستتخذه أوروبا من قرارات أو استراتيجيات. وعلى الجميع أن يرضى.. ويصمت إن لم يؤيد ويشارك. ..... تلو باطلا وجلوا صارما ** وقالوا صدقنا؟.. قلنا نعم.