محافظة القليوبية تقع شمال القاهرة على شريط عريض غرب فرع دمياط، بين القاهرة جنوباً والدقهلية شمالاً، والشرقية شرقاً والمنوفية غرباً، من مدينة شبرا وحتى قرية كفر شكر، ويتبعها شريط صغير غرب الفرع ملاصق لمحافظة المنوفية، يشمل مجموعة كبيرة من القرى والكفور والعزب، أشهرهم (بطا) التي تموج بكل متغيرات العصر!، فهي مصر المصغرة في تفاوتها الطبقي، حيث إن بها عدد كبير من أبناءها في أمريكاوإيطاليا، كما أن بها أيضاً نسبة كبيرة من المتدينين وتجار المخدرات. وتتميز (بطا) بتعليم جيد جداً، فضلاً عن تفوق أبناءها التعليمي، ولا يفوقها في ذلك إلا قرية بسيطة قريبة منها هي (بقيرة)، التي حاول أبناءها أن يقلدوها في الهجرة إلى أوروبا، مما جعلها تفقد بعضهم في الدروب السرية للهجرة غير الشرعية من شرق ووسط أوروبا إلى إيطاليا، ولم يعرف مصيرهم حتى الآن، وهل قتلتهم العصابات أم تجمدوا وتواروا في الثلوج، لكن المؤكد أن ذلك ترك في قلوب أهلهم وأصدقاءهم حزناً لن يختفي أبداً.. حتى لقاء جديد. في هذه القرى والعزب، مثلما هو الحال في كل ريف وصعيد وصحراء المحروسة، أحاديث لا تنقطع عن الجنيات والعفاريت، وأعمال المس والسحر، فمن منا لم يسمع عن طالب متفوق تعثر في الثانوية أو الجامعة وأصيب بحالة نفسية فسرها أبويه بأنه (عمل) مربوط على سمكة في المحيط البعيد أو تحت جثث القبور!. ومن منا لم يسمع عن الجنيات اللاتي ينادين الرجال في الأماكن المظلمة، ويسحروهن بجمالهن قبل أن يأخذوهن إلى قعر الترعة إلى الأبد، فبعضهم من يظهر ميتاً وبعضهم الآخر لا يظهر مطلقاً، ومن منا لم يسمع عن الأوز والبط والأرانب والحيوانات التي تظهر لنا في الظلام الحالك، وأثناء ذهابنا لصلاة الفجر، أو في الطرق الموحشة التي تربط بين القرى!. كما سمعنا عن شيخ المسجد الذي يؤم المصلين، ويقوم بأعمال تزيد الحب من الزوج لزوجته وإبعاد النساء الأخريات عنه، وهو نفسه الذي يربط الأزواج في ليلة الدخلة، إذا لم يذهب إليه أقارب العروسين بهدية مالية أو عينية محددة، لكي يساعدهم على عبور معركة أول ليلة!. عموماً فالأساطير عن "النداهة" في بر مصر، ومثلها أساطير متشابهة تناولتها الدراما، مثل أسطورة عائشة قنديشة في المغرب، وأم الدويس في الخليج العربي، وأسطورة ذات الفم الممزق في اليابان، جميعها – تنادى الجنية فيها الرجال وتسحرهم قبل إغراقهم- والقاسم المشترك بينها جميعاً هو عنصر: الإغواء الأنثوي، والرغبة في القتل والجنس، والمكان الذي يكون عادة نائياً وخالياً، وكذلك عنصر الزمان عند حلول الظلام. وهي الأساطير التي كانت شائعة لدى جميع سكان القرى وخصوصاً في أزمنة لا تضيئ فيها السماء إلا القمر (قبل اختراع المصباح الكهربائي). لكن يبدو أنها عادت من جديد!!.. فصديق كتب على الفيس بوك أن زميلاً له يمتلك "توك توك"، قد ركبت معه سيدة كبيرة في السن وبدينة، لتوصيلها من بطا إلى عزبة أبوباشا، وعلى غير العادة دفعت الأجرة كاملة (7 جنيهات) أثناء الطريق، بعد أن أجرت مكالمة هاتفية، وقبل العزبة بقليل عند بنزينة أولاد خضر، سألها السائق عن مكان نزولها، أكثر من مرة، ثم نظر إلى الخلف فلم يجد السيدة أو حقيبة السوق الخضراء الكبيرة التي كانت تحملها!. عاد الرجل إلى قريته وعلى جانب الطريق الزراعي قبل قريته (بطا) وقف وهو تائه ومرتبك، قبل أن يمر عليه صديقنا الذي كتب عنه، وسمع منه الحكاية، وأقسم له أنها لم تنزل في أى مكان، وأنها أعطته الأجرة كاملة. بالطبع كان حظ الرجل جيداً لأن "العفريتة" لم ترتكب أى جريمة مادية ضده، كالقتل أو سرقة "التوك توك"!، لكن السؤال المطروح هو: في ظل (حداثة) المجتمع، ما الذي يمكن أن يفسر هذه الحكاية التي أثرت بالسلب على الصحة الجسدية والنفسية للرجل؟. يبدو أن ما حدث كان خلال النهار لأنه لن يجرؤ على الوقوف على جانب الطريق خلال الليل، ووسط الزراعات، فهل ستعود الجنيات والعفاريت إلينا بالنهار، وتكون مسالمة؟. لقد كان الناس قبل بضعة عقود (غلابة) وتنتشر بينهم الأمية، ولدى السحرة والمشعوذين عليهم قوة قاهرة، مما دفعهم لترويج الحكايات عن الجن وتخويف أبناءهم من التحرك إلى خارج القرية طوال الليل، أما الآن فالأمور مختلفة تماماً فهناك تقدم تعليمي واقتصادي.. وهناك أيضاً كهرباء!!، وإذا انقطعت فإن الجميع يخشى من التحرك ليس خوفاً من العفاريت وإنما من عصابات السرقة التي تأخذ الأموال والدراجات والموتوسيكلات والسيارات!. لكن يبدو أن القوة القاهرة انتقلت من السحرة إلى سلطة أمر راهن، لا تحظى بالرضا الشعبي، وإن حظيت به فهو إكراه في ثوب القبول أو في رداء الخوف من التغيير والمستقبل، حيث تمتلك قوة قهرية تجمع بين العنف والدعايات، التي تجعل الفقير والمستور والميسور، المتعلم والأمي، يشعر بقلق وخوف دائمين.. وهو ما يوفر الفرصة لعودة الجن للظهور، وعودة المشعوذين في ثياب المعالجين الروحانيين. إن الرجل قد تكون حكايته حقيقية.. أو من نسج خياله المهموم!، لكن الأمر المؤكد أن هذه (العفريتة) كانت رحيمة به، وأعطته حقه كاملاً، سبعة جنيهات، والمؤكد أيضاً أنها من عفاريت عزبة أبو باشا، قريتي الصغيرة الرائعة!.