كما أن هناك في الغرب يمينا متطرفا ، يتدثر بعباءة العلمانية والحداثة من أجل أقصى درجات التطرف القومي والعنصري ، هناك في العالم العربي قطاع من مثقفيه يتابعون تلك الحالة المتطرفة وينسجون على منوالها، ولا يخجلون من أن يكونوا أكثر تطرفا من العنصريين الغربيين ضد الإسلام وعالمه وأهله ، بمحاولة الزج بقيم الإسلام وتاريخ الإسلام وثقافة الإسلام وحضارة المسلمين في أي حدث من أجل تشويه ذلك كله وتحميله أخطاء أو خطايا بعض المتطرفين أو المتورطين في أعمال إرهابية ، حتى أن أحدهم استلهم رأي الملياردير اليهودي "ميردوخ" وإهانته للمسلمين ومطالبته بمحاكمة المسلمين وليس فقط المتطرفين على عملية "شارلي ابدو" وتحميلهم جميعا المسؤولية لكي يؤكد على تضامنه مع رأي "ميردوخ" ! ، وذلك في محاولة للظهور أمام الرأي العام "الغربي" بمظهر الحكيم والمعتدل والمتماهي مع الثقافة الغربية ، وهي عقدة نقص تضرب كثيرا من هذه النوعية ، لأنهم عادة يكتبون للتصدير ، وليس لبني قومهم ، يعنيهم تسويق أنفسهم أكثر من تنوير الأمة بفكر وسطي معتدل حقيقي ، فضلا عن استغلال أي حادث للغمز في القيم الإسلامية ومن يعتصمون بها لأنهم دائما يدعون لكسرها ودفنها ، ولذلك تجد هذه النوعية منبوذة للغاية في أوطانها ، بينما هي عادة نجوم في العواصمالغربية . بعض هؤلاء استنكر أن يندد المسلمون بالإرهاب وبإهانة الإسلام معا ، ورفضوا أن يربط أحد من المسلمين بين رفضه للإرهاب الذي قتل صحفيي "شارلي ابدو" ورفضه في الوقت نفسه للاعتداء الذي مارسته المجلة الفرنسية على مشاعر ملايين المسلمين بإهانة نبيها ومقدساتها ، هؤلاء يكرهون جدا أن تقول لهم : أدين الإرهاب "ولكن" أدين أيضا البذاءة والبصق على كرامتي ، هم يريدون لك أن تكون "حجرا" أو طوبة منعدمة الإحساس والكرامة أو تتماهى تماما مع الثقافة الأخرى وقوانينها ، ويحجرون عليك حتى أن يكون لك رأي مخالف حتى في درجات التباين وليس في أصل الموضوع ، هم يمارسون عليك إرهابا فكريا بشعا لمجرد أنك تقول "ولكن" . والحقيقة أن "لكن" هذه ضرورة منطقية لفهم القضية من جميع جوانبها ، كما أنها ضرورة أخلاقية أيضا إذا أردت أن تعرف بشكل صحيح : كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد ، وبدون "لكن" هذه لن تفهم شيئا ، ستتصور أن عصابة مسلحة من بعض المجانين أو المهاويس سطت على صحيفة وقتلت عدة أشخاص فيها ، هذا كل ما تفهمه بدون "لكن" ، وأما إن أردت أن تفهم لماذا فعل هؤلاء فعلتهم الشنيعة ، ولماذا وجدوا من يتعاطف معهم ولماذا هناك من هم ما زالوا يمثلون خطرا في مثل هذه الأعمال ، وكيف نحتوي مثل هذا النزق ونقطع الطريق عليه مستقبلا وكيف نعالج هذا التطرف وكيف تخفف حدة الاستقطاب الثقافي وكيف نحمي السلام الاجتماعي ، فكل هذا وغيره لا يمكن أن تدخل إليه إلا عبر مفتاح "لكن" ، فهي التي تنقلك إلى الشاطئ الآخر من وجهات النظر لكي تكتمل عندك الصورة ، وبالتالي تكون أكثر قدرة على الحل والتصحيح والإنقاذ ، أما هؤلاء أعداء "لكن" فهم أعداء الحقيقة ، وهم مجرد مسعري حرب ، يقطعون الطريق على أي محاولة لفهم جذور المسألة ويقطعون الطريق على أي نقاش علمي واجتماعي جاد يؤدي إلى إيجاد حلول ثقافية وإنسانية وأخلاقية ودينية ، أبعد من مجرد الحل الأمني الذي ثبت أنه لم ينه أي إرهاب ، بل استفحل الإرهاب وانتشر الخوف عندما فشلت "لكن" فكان العنف والعنف المضاد هو شعار المرحلة . قلنا ونعيد التأكيد ، الإحياء الديني ، أو الإسلام السياسي ، أو إن شئت القول الأصولية الإسلامية ، كل ذلك نشأ منذ الربع الأول من القرن العشرين ونشط واتسع وشمل العالم الإسلامي كله ، ولم يصاحبه إرهاب ولا تنظيمات إرهابية ، فلماذا لم يظهر الإرهاب عبر بعض خلاياه إلا في العشرية الأخيرة من القرن العشرين ، لماذا غاب قرابة سبعين عاما ، والدين هو الدين ، والثقافة هي الثقافة ، والتعليم هو التعليم ، والمنهج هو المنهج ، ما هي "مولدات" العنف ولماذا نجحت تنظيمات الإرهاب في استقطاب أعداد متزايدة من الأجيال الجديدة ، ولماذا اتسعت وتعددت منظمات الإرهاب ، هذه قضية لا يمكنك معالجتها إذا كنت تفتقد للكلمة المفتاحية : "لكن" ، وبدونها لن تفهم شيئا ، ولن تحل شيئا .