صدرت عدة وثائق تتناول المبادئ الأساسية الدستورية، وكل الوثائق متشابهة، ومازال الجدل يدور حول تلك المبادئ، وهل توضع في وثيقة استرشاديه أو وثيقة إلزامية. والغريب في الأمر، أن الوثائق الصادرة عن عدة جهات وتحالفات، جاءت بنفس المضمون تقريبا، مما يعني أن التوافق بين القوى السياسية حاضر بالفعل، وهو ما يعني أن الحوار والجدل والخلاف حول المبادئ الأساسية ليس له مبرر، مادام التوافق متحقق. فالجدل الإعلامي الهائل الذي دار حول الدستور أولا، أم الانتخابات أولا، ثم تحول لجدل حول إعلان دستوري جديد ملزم للجنة التأسيسية التي سوف تضع الدستور، يفترض معه وجود خلاف عميق بين القوى السياسية، تتوقع تبعا له، أن يصبح من الصعب التوافق على الدستور الجديد، مما يدفع بعض القوى للبحث عن أسلوب آخر، للتوصل إلى توافق حول المبادئ الأساسية للدستور. وكان من الطبيعي أن تتحاور القوى السياسية حول المستقبل السياسي لمصر، وتتحاور حول المبادئ الأساسية من أجل بناء توافق عام، يمهد لعمل اللجنة التأسيسية التي سوف تضع الدستور الجديد. ولكن الجدل سار في مسار آخر، فالقوى والنخب العلمانية أرادت أن يوضع الدستور من خلال لجنة معينة، بحيث لا يكون لأي قوى منتخبة دور في وضع الدستور، ويصبح الحضور السياسي للقوى السياسية المختلفة غير مؤثر على وضع الدستور الجديد، ويصبح لكل اتجاه سياسي نفس الدور في وضع الدستور الجديد، حتى وإن كانت بعض الاتجاهات السياسية لا تمثل إلا نفسها، وليس لها تأييد شعبي. والنخب العلمانية تصورت أن وضع الدستور لا يقوم على الأغلبية البرلمانية، لأن الدستور توافقي، وهذا صحيح، ولكن القوى التي تنتخب لوضع الدستور، يجب أن تعبر عن الأوزان النسبية للتيارات السياسية في مصر، حتى وإن كانت القوى المنتخبة، والتي سوف تختار اللجنة التي سوف تضع الدستور، سوف تعمل على وضع دستور توافقي. فالدستور في كل الأحوال هو مبادئ عامة، لا ترتبط ببرنامج سياسي معين، ولا ترتبط بفترة زمنية قصيرة محددة، ولكن يرتبط الدستور أساسا بالمبادئ العامة التي تعبر عن المجتمع، وبالتالي تعبر عن التوافق الحادث داخل المجتمع. فالتوافق يتحقق بين مكونات المجتمع أساسا، وطبقا لوزنها النسبي، وتفاعلها الحياتي. إذن الدستور في كل الأحوال يجب أن يكون تعبيرا عن التوافق المجتمعي، وليس توافق قوى سياسية بعينها. ولكن توافق القوى السياسية، يظهر توجهاتها العامة، والمشترك بينها، وما تراه معبرا عن المجتمع، ثم تأتي عملية وضع الدستور، لتكون محاولة لرفع حالة التوافق المجتمعي، ووضعها في إطار دستور، يخرج من الناس ويعرض عليهم، ويحوز موافقتهم. ولكن النخب العلمانية أرادت أن يكون الدستور معبرا عن الرموز والنخب السياسية، بدون أوزان نسبية، وبدون الأوزان النسبية لمكونات المجتمع. وكأن تلك النخب تعبر عن عدد التوجهات السياسية الموجودة، أيا كان ما لها من تأييد شعبي. ولكن عندما بدأت النخب في وضع تصوراتها عن الدستور ومبادئه الأساسية، لم تستطع تجاهل المجتمع. وكل القوى العلمانية التي كانت ترفض المادة الثانية من الدستور، والخاصة بالمرجعية الإسلامية، عندما وضعت تصوراتها قبلت المادة الثانية، ووضعتها كما هي، لأن النخب العلمانية أدركت أن التعرض للمادة الثانية، ومحاولة إلغائها أو تعديلها، سوف تواجه برفض شعبي واسع، يقضي على أي وجود سياسي للنخب العلمانية. ومعنى هذا، أن النخب العلمانية لم تستطع تجاهل الواقع المجتمعي، والذي فرض عليها أن تحافظ على المرجعية الإسلامية، رغم أنها تعارضها، ورغم أن هذه الموافقة ليست إلا موقف شكلي. ولكن لم تستطع النخب العلمانية، أن تخرج للناس بما يعارض توجهاتهم، وتكتشف أنها أصبحت في عداء مع أغلبية المجتمع. وهذا يعني أن التوافق يتحقق مجتمعيا، قبل أن يتحقق سياسيا. فالتيارات السياسية يمكن أن تختلف، لأن العلاقة بينها وبين بعضها البعض تقوم اساسا على التنافس، وهذا طبيعة الأحزاب السياسية. ولكن المجتمع له طبيعة مختلفة، فالمجتمع مع تعدده وتنوعه يقيم علاقات تكامل، ينتج منها توافق مجتمعي، يسمح للناس بالعيش المشترك، وبالتالي يحدث التوافق العميق والأساسي داخل المجتمع، أكثر من بين القوى السياسية. لهذا لا تجدي كل محاولات وضع الدستور بعيدا عن الإرادة الشعبية الحرة. لذا فالتوافق الحادث حول المبادئ الأساسية، ناتج في الواقع من قوة حضور الإرادة الشعبية، على الأطراف التي تخالف التوجهات العامة في المجتمع. ويمكن القول، أن الخلاف الأساسي، والذي يدور بين المرجعية الإسلامية والعلمانية، حسمه في النهاية الرأي العام، مما جعل أصحاب المرجعية العلمانية، يخفون تلك المرجعية مرة خلف مصطلح المدنية الملتبس، ومرة خلف موافقتهم الشكلية على المادة الثانية الخاصة بالمرجعية الإسلامية. ومعنى هذا، أن القوى السياسية لم تتوافق، إلا عندما حضرت الإرادة الشعبية، وتأثيرات الرأي العام، بما يعني أن التوافق تحقق مجتمعيا، وانعكس ذلك في توافق سياسي، وأن التوافق السياسي ليس هو أصل التوافق، بل هو انعكاس للتوافق المجتمعي. وخلاصة هذا الوضع، أن التوافق حاضر مجتمعيا، مما جعله حاضر على المستوى السياسي. وكل محاولة لتجاوز الإرادة الشعبية، سوف تنتهي بالرضوخ للتك الإرادة.