المحكمة هي بلا شك صاحبة الولاية على ما يجري في ساحتها وتقرر ما تراه مناسبا. ومن الطبيعي أن تفرح قراراتها طرفا وتغضب آخر، وذلك هو الذي حدث أمس في قرارين، الأول ضم قضيتي محاكمة مبارك والعادلي بخصوص قتل المتظاهرين الذي أفرح المدعين بالحق المدني، والثاني وقف البث التلفزيوني للمحاكمة ابتداء من جلسة الخامس من سبتمبر القادم والذي أسعد أنصار مبارك وفريق دفاعه. كان واضحا أن فوضى المدعين بالحق المدني والحرص على الكاميرات أكثر من الحرص على سير القضية في إطارها القانوني السليم، هو الدافع الرئيس لقرار المستشار أحمد رفعت وقف البث التلفزيوني، وقد بدأ الجلسة مبديا أسفه على ما حدث أمس الأول في محاكمة العادلي، وأن ذلك يعوق عقد الجلسات يوميا كما كان مقررا من قبل وأعلن عنه بنفسه في مؤتمر صحفي. لا يمكن أن تستمع المحكمة لأكثر من مائة مدع في وقت واحد، ولا أن يظل رئيسها يطالبهم بالجلوس في أماكنهم والهدوء دون أن يستجيب أحد، ومع ذلك نريد من هيئتها أن تنجز المحاكمة وتسرع فيها وتحكم بالعدل. محامو الدفاع أكثر تنظيما وحنكة وعمقا من محامي المدعين بالحق المدني، وهذه المفارقة لو استمرت ستكون في صالح مبارك ونجليه والعادلي، فمتانة الدفاع تقابلها سيولة من الطرف الآخر، حتى أننا فوجئنا بأنه ليس محاميا ذاك الشخص الذي أخذ وقتا طويلا في الجلسة الماضية مشككا بأن الجالس في القفص ليس مبارك وأنه توفي قبل سنوات. ربما جعل ذلك هيئة المحكمة تدفع عن نفسها شبهة المحاكمة التلفزيونية، فالكاميرات والبث الحي يسلبان جزءا أصيلا من وقت المحكمة والدفاع والمدعين لصالح الباحثين عن "الشو" والمنظرة. وهكذا جرت الأمور أمس الأول وأمس، وعلى هذا المنوال قد تستمر المحاكمة شهورا ما بين تأجيل وتأجيل. لقد حرمت فوضى المدعين بالحق المدني الناس من متابعة تاريخ حي، وحرمت مصر من عيون العالم التي تترقب تلك الجلسات وتشاهدها باعجاب كبير. وقد تحرمها أيضا من الاطمئنان والثقة واحساس العدالة والشفافية التي سرت في ربوعها منذ ظهر مبارك ونجليه في القفص لأول مرة أمام الرأي العام. البعض نظر للأمر من زاوية أخرى ترى أن وقف البث يعكس جدية المحكمة في استدعاء بعض الشهود ذوي المواقع الحساسة المرتبطة بالأمن القومي، فقد يمثل أمامها المشير طنطاوي واللواء عمر سليمان، وما في شهادتيهما من أسرار عليا لا يجوز افشاءها بأي حال، ولكن هذا مردود عليه بأنه يمكن وقف البث مع تلك النوعية من الشهود وتحويلهم لجلسة سرية. نفاد صبر المحكمة سريعا بعد ثلاث جلسات ليس له ما يبرره، فقد كان يمكنها الانتظار أكثر وأكثر إلى أن ينظم محامو المدعين بالحق المدني صفوفهم ويختاروا من يمثلهم، وأن سلبيات وقف البث ستدفع في اطار التشكيك في المحاكمة واجراءاتها وشفافيتها، والظن أنها تسير نحو نهاية معدة سلفا. ومع ذلك لست مع الخلط بين وقف البث وعلانية الجلسات، فالعلانية ستبقى والمحاكمة لن تكون سرية، ولن يمنع القرار دخول الكاميرات والإعلاميين ونقل كل ما يدور داخل الجلسة، أي أن الإجراءات ستكون منظورة أمام الجميع. [email protected]