معركة جديدة تدور في خفاء وهدوء ، وبعيدا عن الشحن الإعلامي والتجاذبات الحزبية والصخب السياسي ، فتبدو هامشية ، رغم أنها أخطر معركة يخوضها تيار الثورة المصرية الآن وسوف تمثل في حال تمام النصر فيها أجمل وأروع نتائج هذه الثورة التي تصوغ مستقبل مصر ، تلك هي معركة إصلاح القضاء ، وإبداع قانون جديد للسلطة القضائية ، يحقق لها الاستقلالية والشفافية ، ويعيد لمنصة العدالة هيبتها وحرمتها ، ويصحح مسارها بحيث تتوسد المقام المستحق لها كأحد أضلاع السلطة الثلاثة ، بعد ، بل قبل ، السلطتين : التشريعية والتنفيذية . يشارك في لجنة إعادة صياغة قانون السلطة القضائية نخبة من شرفاء القضاة ، في مقدمتهم الرجل المحترم ، المستشار أحمد مكي ، نائب رئيس محكمة النقض ، أحد رموز تيار الاستقلال في نادي القضاة ، وصاحب الوقفات الشهيرة أمام الطاغية وحاشيته في الأوقات الصعبة ، واللجنة التي تعمل في صمت توصلت حتى الآن إلى عدة توصيات مهمة للغاية ، منها إلغاء نيابات أمن الدولة التي أنشئت بقرار من وزير العدل عام 1953 ، وكان القصد منها تمكين رئيس الجمهورية من تحويل قضايا بعينها إلى محاكم استثنائية للتنكيل بخصومه وإرهابهم ، أيضا انتهت اللجنة إلى أهمية تحصين موقع النائب العام ، بحيث لا يكون تعيينه بقرار من رئيس الجمهورية ، وإنما بقرار من مجلس القضاء الأعلى ، كما اشترطت التوصيات أن يكون النائب العام ممن شغلوا منصة القضاء لمدة لا تقل عن خمس سنوات ، بحيث تترسخ في ضميره روح العدالة وحيادية القاضي واستقلاليته ، والأمر نفسه بالنسبة لمساعدي النائب العام والمحامين العموم ، كما انتهت اللجنة إلى دعم سلطة وكلاء النيابة وفصلها عن سلطة النائب العام ، بحيث لا تكون له ولاية على التحقيقات ، وإنما على مجرد الاتهام ، كما انتهت اللجنة إلى نقل تبعية التفتيش القضائي من اختصاص وزير العدل السلطة التنفيذية إلى مجلس القضاء الأعلى ، بحيث تنقطع تأثيرات السلطة التنفيذية عن القضاة ، وكذلك نقل التفتيش على النيابة من الحكومة وزير العدل إلى مجلس القضاء الأعلى ، وأن تلغى عمليات ندب القضاة إلى الوزارة والمصالح الحكومية وهي السبوبة التي كانت مدخلا لإفساد القضاء وشراء الذمم ، وتدرس اللجنة الآن آليات الاختيار للقضاة ، بما في ذلك الاستثناءات الممنوحة للقضاة في تعيين الأبناء ، رغم حساسيتها ، ولأن معظم الاضطراب والخلل الذي حدث في فترة مبارك أتى من اصطناع بوابات خلفية للدخول إلى سلك القضاء لضباط شرطة مرضي عنهم وآخرين ، وهو ما عكس صورة شديدة السلبية للقضاء في السنوات الأخيرة . هذه الإصلاحات التي قد ينظر إليها البعض على أنها "أمور فنية" وإدارية ، هي في غاية الخطورة من جهة تأثيرها على العدالة وشفافيتها وعلى حقوق المواطن العادي ، والقوى السياسية ، والأحزاب ، والحريات العامة ، لأنها باختصار محاولات جادة لسد كل الثقوب التي اصطنعها نظام مبارك والنظم التي قبله من أجل احتواء القضاء ، وتدجين القضاة ، وتحويل العدالة من ملجأ للمستضعفين إلى مجرد سوط في يد الجلاد ، عليه ختم مزور باسم العدالة وهي منه براء . في التراث الإسلامي الرائع عبارة شائعة تقول : إن الله تعالى يقيم دولة العدل ولو كانت كافرة ولا يقيم دولة الظلم ولو كانت مسلمة ، وهو وعي حضاري مبكر بقيمة العدالة ومحوريتها في حماية المجتمع الإنساني وإقامة العمران البشري ، فأي دولة تملك قضاءا مستقلا وقويا ومحصنا وعادلا فهي تملك الأساس المتين للاستقامة السياسية والنهوض الاقتصادي وحيوية المجتمع الأهلي أيضا ، العدالة هي روح المجتمع ، في كل تفاصيله ، وعندما تضطرب السلطة التنفيذية أو تختل السلطة التشريعية ، تظل الأمم صامدة والمجتمعات عفية ، طالما لديها قضاء قوي وراسخ ، ولكن العكس لا يكون صحيحا أبدا ، فلنتضامن جميعا من أجل دعم هذه الجهود ، ووالله لو أن هناك قضية في مصر الآن تحتاج إلى مليونية حقيقية للمطالبة بها أو دعمها ، لكانت هذه القضية . [email protected]