البيان المفاجئ الذي صدر اليوم عن الديوان الملكي بالسعودية فتح الباب أمام التكهنات عن الرسائل التي يرسلها والإشارات التي يبعث بها إلى مختلف الأطراف ، غير أن الرسالة التي وجهها البيان إلى مصر حكومة وشعبا حسب قول البيان ، هي الأكثر غموضا وإثارة للتكهنات في البيان كله ، وفي تقديري الشخصي أنها قد تكون إشارة إلى رغبة خليجية في تعديل بوصلة الإدارة السياسية والإعلامية المصرية الحالية ، ليس فقط تجاه الخليج وحده ، وإنما لما هو أبعد من ذلك . البيان الصادر عن العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز كان بمناسبة نجاح القمة الطارئة لدول مجلس التعاون الخليجي التي عقدت في الرياض والتي أذابت ثلوجا كثيفة بين أكثر من دولة ، وانتهت إلى ما يشبه مصالحة بين الإماراتوقطر ، وعودة سفراء البحرين والسعودية والإمارات إلى الدوحة ووقف أي رسائل إعلامية سلبية بين دول المجلس ، وقال فيه حرفيا :(نحمد الله العلي القدير الذي مّنَ علينا وأشقائنا في دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين ودولة الكويت ودولة قطر في الوصول إلى اتفاق الرياض التكميلي في يوم الأحد 23 / 1 / 1436ه الموافق 16 / 11 / 2014م في مدينة الرياض والذي حرصنا فيه وإخواني أصحاب الجلالة والسمو على أن يكون منهياً لكافة أسباب الخلافات الطارئة وأن يكون إيذاناً - بحول الله وقوته - لبدء صفحة جديدة لدفع مسيرة العمل المشترك ليس لمصلحة شعوب دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية فحسب بل لمصلحة شعوب أمتنا العربية والإسلامية والتي تقتضي مصالحها العليا أن تكون وسائل الإعلام مُعينة لها لتحقيق الخير ودافعة للشر) . غير أن البيان ، وهو يتحدث عن الشأن الخليجي ، انعطف مباشرة إلى الشأن المصري ، أو بمعنى أدق : المصري الخليجي ، وقال ما نصه : (وفي هذا الإطار، وارتباطاً للدور الكبير الذي تقوم به جمهورية مصر العربية الشقيقة، فلقد حرصنا في هذا الاتفاق وأكدنا على وقوفنا جميعاً إلى جانبها وتطلعنا إلى بدء مرحلة جديدة من الإجماع والتوافق بين الأشقاء ، ومن هذا المنطلق فإنني أناشد مصر شعباً وقيادة للسعي معنا في إنجاح هذه الخطوة في مسيرة التضامن العربي - كما عهدناها دائماً عوناً وداعمةً لجهود العمل العربي المشترك -. وإني لعلى يقين - بإذن الله - أن قادة الرأي والفكر ووسائل الإعلام في دولنا سيسعون لتحقيق هذا التقارب الذي نهدف منه - بحول الله - إلى إنهاء كل خلاف مهما كانت أسبابه فالحكمة ضالة المؤمن) . البيان السعودي تدرك منه بسهولة حجم إحساس السعودية بالخطر الذي يهدد المنطقة برمتها ، وأنه خطر لن ينجو من شرره أحد من دول المنطقة ، وهو ما يستدعي أن يعلو الجميع إلى مستوى المسؤولية لتلك اللحظة ، والملاحظ في البيان حرصه اللفظي على الحديث عن "مصر" وليس الحكومة المصرية أو القيادة المصرية ، والحديث عن مصر "شعبا وقيادة" في النداء ، وبهذا الترتيب ، وهو تطور نوعي في الخطاب السعودي تجاه الشأن المصري ، كذلك خاطب العاهل السعودي من أسماهم "قادة الرأي والفكر ووسائل الإعلام" ، أي أنه يتوجه إلى ما يمكن تسميته بالمجتمع المدني ومفاتيح التأثير فيه ، وكل هذه إشارات ضمنية واضحة إلى إدراك المملكة بتعقد المشهد المصري حاليا ، وأنه أكثر صعوبة وخطرا مما كان الجميع يتصورون أو مما صوره لهم البعض . أيضا أن تتوجه السعودية بالنداء ، الذي يشمل القيادة المصرية ، بأن تساعد على إنجاح التضامن العربي ، فهي لغة حذرة جدا لكنها كافية لاستيعاب أنه أول نقد علني توجهه السعودية للسياسات المصرية الحالية ، وأنها تلك السياسات جزء من المشكلة والأزمة وعائق دون الحل بما ينعكس سلبيا على دول مجلس التعاون الخليجي نفسها ، وعلى مجمل هموم المنطقة ، هذه أول إشارة تبدو فيها المملكة وقد ضاقت ذرعا بعبثية إدارة الشأن السياسي والإعلامي في مصر . شئنا أم أبينا ، فلا مهرب من التسليم بأن النظام السياسي المصري الحالي مدين ببقائه للدعم الخليجي ، وبالتالي فهو لا يملك ترف أن يخرج على "تقديرات" العواصم المهمة في الخليج مثل الرياض وتوصياتها ، والاحتياطي النقدي لمصر حاليا يدور حول 16 مليار دولار ، منهم ستة مليارات تسدد قبل نهاية الشهر الحالي ، لقطر "اثنان ونصف مليار" وديعة ، وثلاثة مليارات ونصف لشركات بترول وسندات خزانة سابقة ، بما يعني أن الاحتياطي النقدي يمكن أن يصل بنهاية الشهر إلى عشرة مليارات ، والمكون الوطني فيهم صفر والباقي كله ودائع خليجية وليبية وهذا يعني أن مصر دخلت مرحلة الخطر الحقيقي والمرعب ، وأغلب الظن أن الأسابيع المقبلة قد تشهد تغييرات حاسمة في السياسات المصرية الخارجية تجاه الخليج العربي تحديدا وبدرجة أقل في السياسات الداخلية ، ... والله أعلم .