بعد الاستماع لكثير من الروايات من شهود العيان في موقعة العباسية وجدت أن مسيرة المتظاهرين لمقر وزارة الدفاع هي حماقة واستفزاز وحلقة من التصعيد المتعمد مع المجلس العسكري، وللأسف لم أجد في برامج "التوك شو" في هذه الليلة من بعض المحللين والمنظرين والفلاسفة ما يدعو للحكمة والهدوء والعقل وتحمل المسؤولية في هذا الظرف الحساس، بل إن معظمهم كانوا يمالئون ويزايدون على غلاة "التحرير"، وهم من لون سياسي واحد تقريبا، لكن ما لا يحتمل أن أسمع شابا يقول إن ثورة يوليو خلصت مصر من الاحتلال الانجليزي، وثورة يناير خلصت مصر من احتلال مبارك، وفي فضائية أخرى يقول آخر إنه لابد من محاسبة سياسية لل 30 عاما التي قضاها مبارك في السلطة، وفي نفس اليوم صباحا يقول مسؤول بحركة 6 أبريل أن نظام مبارك كان عميلا للصهاينة والأمريكان، وأمام حالة كهذه من التفكير والتحليل المتهور المحرض ممن يقودون ويؤثرون في الرأي العام فضلت الهرب للاستماع لحلقة معادة من مسلسل رائع وراق للأستاذ وحيد حامد اسمه "أوان الورد"، وهو في جوهره رسالة محبة بين المسلم والمسيحي، بل بين المصريين جميعا دون النظر للأديان والعقائد والاختلافات أيا كانت، وهذه الرسالة هي أشد ما يحتاج إليه المصريون الآن ليجتمع الكل على هدف واحد وهو البناء وليس التخريب والتدمير والفوضى، مثلما اجتمعوا على هدف واحد طوال 18 يوما من شهر يناير وهو إسقاط النظام حيث اختفت بينهم في ميادين التحرير وفي عموم مصر تلك الأمراض والنعرات والصراعات التي تفتتهم وتمزقهم وتجعلهم يتناحرون كأنهم يبدأون بروفة لاقتتال أهلي لا سمح الله . سقط النظام، فما هي الخطوة التالية؟، هل سنظل منهمكين بالتحليل والتنظير في عمالة النظام للصهاينة والأمريكان - وهي رؤية فيها شيء من التطرف الفكري- ، أو في احتلال مبارك لمصر وكأنه كان اللورد كرومر أو الجنرال نابليون، ولا ينسى من يقول ذلك أن مبارك هو نفسه الذي خرج الشباب يوم 25 يناير يطالبونه بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، أي أنهم كانوا يعترفون بشرعيته بدليل أنهم يقدمون إليه مطالبهم، ولم يكن من بينها في هذا اليوم رحيله. الهدف الأسمى الآن هو بناء نظام جديد حر وديمقراطي يقوم على المواطنة و المساواة والعدالة الاجتماعية؟، لكن كيف يتم هذا البناء ومصر الثورة أصبحت "عشر تلاف ائتلاف" وحزب وجماعة وحركة، وكل كيان منها يرفع مطالب ويأمر الحكومة والمجلس العسكري ويريد التنفيذ الفوري ويهدد بعدم مغادرة الميدان ما لم تتحقق مطالبه، والمعنى أن هناك من سيقيمون بالتحرير لسنوات، لأن محاكمة النظام السابق المحتل عميل الصهاينة والأمريكان يمكن أن تستغرق شهورا طويلة، إلا إذا كانوا يريدون محاكم مدنية شكلا لكنها تعمل بنمط المحاكم الثورية فتحاكم وتصدر الأحكام المكتوبة سلفا في ربع ساعة. والحقيقة أنني أشعر أن مطلب القصاص لدماء الشهداء وهو الأكثر عاطفية وإجماعا من المصريين أصبح الآن مثل قميص عثمان الذي يرفعه ويتمسح به ويحتمي وراءه كل من يريد تعطيل البلد ومصالح الناس وتنفيذ أهداف خاصة به، وتحت اسم دماء الشهداء خرجت عشرات المطالب العجيبة مثل إقالة النائب العام ورئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، ولا أدري هل الاثنان من الثورة المضادة؟، وهل إقالتهما هي التي ستنتشل مصر من حالتها الراهنة؟، وفيمَ أخطأ الرجلان؟، أم أن من يقودون الاعتصام لهم مآرب خاصة في الإصرار على هذه المطالب الثانوية ، وهل لو كل المطالب تحققت ولم تتم إقالتهما تكون الثورة أخفقت، أي ثورة هذه التي تشغل نفسها بالأهداف الصغيرة عن الاستراتيجيات والأهداف الكبيرة؟، اللواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية كان له رد وجيه بأنهما موظفان لا يتدخل المجلس العسكري في أمر إقالتهما ويترك ذلك للنظام الجديد المنتخب. ومطلب العدالة الاجتماعية كيف يتحقق في يوم وليلة؟. هذا هدف كبير يحتاج لسنوات من العمل والاستثمار والتنمية لبلد في حالة يرثى لها بعد الثورة حيث لا اقتصاد ينتج، ولا سياحة تنشط، ولا استثمار مطمئن، ولا أحد يعمل أو يريد للآخرين أن يعملوا، وكيف تتحقق العدالة الاجتماعية والسحب لا يتوقف من رصيد العملات الأجنبية، والموازنة مختلة، والحياة معطلة، وكيف تطبق الحكومة الحد الأدنى من الأجور، وتقدم علاوت وترفع المعاشات، وخزينتها فارغة، وتدعمها قطر ب 500 مليون دولار؟ .جمعة 8 يوليو التي شارك فيها الجميع رفعت مطالب والمجلس العسكري استجاب، فما هي ضرورات البقاء في الميدان، وإغلاق المنطقة، وجعل الحركة صعبة على الناس فيه، والأخطر أن استمرار الاعتصام يعطي إشارات سلبية للخارج على أن الأحوال غير مستقرة، فمن سيغامر ويصل بأمواله وينشئ مصنعا أو مشروعا إذن، بل هناك مصريون يعملون بالخارج خافوا أن يقضوا الصيف في بلدهم، وفضلوا البقاء حيث يقيمون، فهل يمكن أن يأتي الغريب للاستثمار أو السياحة أو العلاج ؟. وأسأل المتواجدين بالتحرير أليست لديهم أعمال ووظائف ومهن وحرف؟، أليس لديهم أسر وأولاد؟، والسيدات أليست لهن بيوت، والفتيات أليست لهن دراسة، أو مشروعات خطبة وزواج، أم كلهم متفرغون لحماية الثورة ،ومن أين يعيشون أو يعيلون أنفسهم أو عوائلهم؟، أم أنهم أدمنوا الثورة ، أم هم سعداء بوظيفة جديدة اسمها "ثوري"؟. نعترف أنكم ثوار نبلاء حققتم مع بقية المصريين إنجازات عظيمة يكفينا منها إسقاط مبارك، وإنهاء كابوس التوريث، والقضاء على الحزب الوطني، ومحاكمة الفاسدين ، وإزالة عوائق الترشح للرئاسة، وغيرها من منجزات رائعة كنا نحلم بها، لكن البلد يمكن أن ينهار ولا يستفيد احد من تلك الانجازات إذا لم ينشط الاقتصاد لأنه المحرك للسياسة، والدول لا تكون مؤثرة بمساحتها، ولا بعدد سكانها، ولا بديمقراطيتها ما لم يكن ذلك مقرونا باقتصاد قوي، والصين دولة شيوعية قمعية تحكم بالحزب الواحد لكن كلمتها مسموعة ولها وزنها في العالم بسبب مكانتها الاقتصادية العالمية، والهند هي اكبر ديمقراطية بالعالم لكن كلمتها لم تعد مؤثرة إلا بعد أن نهضت اقتصاديا وحققت معدلات تنموية مرتفعة، وهكذا الأمر مع البرازيل، وجنوب أفريقيا، وغيرها، وهي بلدان كانت إلى وقت قريب في وضع مشابه لمصر في الفقر والتخلف. بناء مصر هو المطلب المقدس الآن، فالشهداء في جنات النعيم، ومبارك ورجاله في السجن، والقضاة يحققون، والنيابات تفحص وتستجوب، والأجهزة الرقابية تتحرى وتنقب وتأتي بمزيد من الفاسدين، أي إن آلة المحاسبة وتنظيف البلاد تعمل، فلنتحرك في المسارين السياسي والاقتصادي بهدوء وعقل ومسؤولية بالانتقال إلى حكم مدني عبر انتخابات لنعطي العالم الانطباع أن الأوضاع تتحسن، ولتدور عجلة الاقتصاد والتنمية دون توقف. أما الاعتصامات المفتوحة، والمسيرات لمحاصرة وزارة الدفاع، ومقرات الجيش بالقاهرة والمحافظات فهذا عبث ،وهو عمل أناس لا يريدون البناء، إنما جر البلاد للفوضى لتنفيذ أهداف خاصة بهم ربما لإدراكهم أن الانتخابات لن تكون في مصلحتهم. إذا كان من يخالف القانون من المواطنين العاديين يتعرض للمحاسبة، فإن من يخالفه من الثوار والسياسيين يجب أن يحاسب أيضا، فيجب ألا يكون على رأس أحد ريشة بعد الثورة، والمشاركة في الثورة أو الإيمان بها أو التعاطف معها ليس رخصة لمخالفة القانون وتعريض البلاد للخطر، مصر أهم وأبقى، ومن يهدد استقرارها وأمان شعبها فانه يرتكب أبشع جريمة ومحاسبته واجبة واجبة.