صادفت فى أستراليا وبريطانيا وفرنسا أناسا يتحدثون عن الإسلام بجهل شديد.. ولا بد أن أشير هنا إلى أن هذا الحكم لا ينطبق على من عرفت من المفكرين والدعاة المستنيرين.. ولكنى أردت فقط التنبيه إلى وجود فئة من الناس يطفون على الساحات.. ويقتحمون المجالس.. و يزاحمون فى الصفوف الأمامية ليأمّوا الصلوات.. وقد رأيت منهم عجائب مازلت أتذكر بعضا منها حتى الآن رغم مرور عقود من الزمن عليها: فى مسجد صغير بكانبرا -العاصمة الفدرالية لاستراليا- جاء الدكتور محمد على العريان وهو أستاذ بالجامعة معروف بنشاطه الجمّ.. وقد صحب معه سيدة من هيئة التدريس قرأت كثيرا عن الإسلام وناقشت فيه.. وأصبحت مهتمة بالتعرّف على الإسلام فى الممارسة العملية.. شاهدَت السيدة الصلاة.. فلما انتهت، اقتربت من الإمام، وهو شاب فى الثلاثينات من العمر له لحية كبيرة.. وسألته هذا السؤال: سيدى الشيخ .. ما هو موقع المرأة فى الإسلام..؟! فتمطّع الشيخ وأطلق عبارة مقتضبة لم أكن أتوقعها من شخص يزعم أنه داعية إسلامي ويتصدى لإمامة المصلين.. قال وهو يستخدم أصابعه فى الشرح: المرأة نصف رجل...؟ قلت فى نفسى وأنا مذهول من الإجابة الجاهلة: سبحان الله .. أهذا كل مافتح الله به عليك يا رجل..؟؟ ألم يكن أجدر بك أن تعتذر عن الإجابة.. خصوصا فى حضرة أستاذ جامعي كان فى ذلك الوقت "رئيس اتحاد الجمعيات الإسلامية فى أستراليا..؟!".. تحرّيت عن الرجل وعن ثقافته الدينية فقيل لى إنه جاء من بلد عربي كان يعمل فيه فى محل مجوهرات.. ثم تبيّن لى أنه كان عامل نظافة فى هذا المحل .. وليس له علاقة بفن تشكيل المجوهرات.. ولم يتلقّ فى حياته أي تعليم ديني على الإطلاق...! صادفت من أمثال هذا الرجل أصنافا من البشر يقحمون أنفسهم على الإمامة فى المساجد ويتصدّون للدعوة والفتوى.. رغم أنهم ليس لهم من التعليم الديني نصيب.. وهؤلاء – فى الحقيقة- يمثلون سوء حظ المسلمين وغير المسلمين فى العالم الغربي.. بل سوء حظ الإسلام نفسه.. لا أريد ان أترك انطباعا غير واقعي عن الصورة العامة للإسلام وللدعاة الإسلاميين فى الخارج.. فأنا أعرف منهم أمثلة رائعة تستحق الإعجاب.. ولكنهم للأسف لا يلفتون نظر الإعلام الغربي.. الذى يركز على تقديم الجهلاء والأدعياء وأنصاف المتعلمين باعتبارهم النماذج المهمة التى تمثل الإسلام والمسلمين... أنتقل إلى مستوى آخر فى مصر ليس بهذا السوء.. ولا قريبا منه والحمد لله.. ولكن لى على خطابه الإسلاميّ ملاحظات، أسوقها نصيحة واجبة من أخ إلى أخوته.. المفروض أننا نجتمع على قيم الإحسان والإتقان والتّجرّد... وقد دفعنى إلى هذا ثلاثة أمور: الأول- أن مايصدر عن الإسلاميين من كلام وتصريحات فى هذه المرحلة من التطور السياسي فى مصر أصبح موضوعا تحت المجهر، وأن مراصد أعداء الإسلام وأعداء النشاط السياسي للإسلاميين تتربص لأيّ هفوة لتضخمها وتبالغ فيها.. مما يستوجب الحذر وتحرّى الدقة فى التعبير.. أعلم أن العلمانيين لن يرضيهم أي شيئ، ولن يقنعوا إلا بتنحى الإسلاميين عن النشاط السياسي وإخلاء الساحة لهم.. وأعلم أنهم حتى ولو لم يجدوا أخطاء من الإسلاميين فسيختلقون لهم الأخطاء.. ولكنى أرى -على الأقل- أن ضبط الخطاب السياسي للإسلاميين من شأنه أن يزيد من صعوبة المهمة الخبيثة للعلمانيين.. ثانيا- إنعقاد مؤتمر"سِمَات الخطاب الإسلامي" فى 28و29 يولية الجارى الذى ينظمه -لأول مرة فى مصر- الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين تحت رعاية الأزهر الشريف.. حيث يناقش المؤتمر سبل تجديد الخطاب الإسلامي، بين العاملين للإسلام.. ويناقش موضوع تطبيق الشريعة ومفهومها لدى الجماعات الدينية والثقافية... و معنى هذا أن هناك وَعْي بمشكلاتٍ مَا فى أسلوب الدعوة وفى الخطاب االإسلاميّ.. و أن هناك رغبة فى التصحيح...! الثالث- تناقلت الصحف مؤخَرا تقريرا عن تظاهرة حاشدة لجماعات إسلامية (قُدّر عددهم بخمسة عشرة ألف متظاهر) تدعو لتطبيق الشريعة الإسلامية.. وقد قيل فى هذه التظاهرة كلام، وجرت عبارات على ألسنة الخطباء، أرى أنه قد جانبها التوفيق.. وانزلق أصحابها إلى أخطاء ماكان ينبغى لهم أن يتورّطوا فيها.. لذلك رأيت أن أعلّق عليها -من قبيل إسداء النصيحة الأخوية- ببعض ملاحظات.. كالآتى: الملاحظة الأولى: قيل "أن تطبيق الشريعة ليس اختياريا للحاكم ولا يخضع لموافقة الأغلبية أو اعتراض الأقلية، وهذا الأمر لا يجوز الاستفتاء عليه لأن تطبيقها هو أمر من الله ...!". وأعلّق على هذا فأقول: أفهم أن تطبيق الشريعة فى الحكم واجب.. ولكنى لا أفهم كيف تُطبّق قهرًا وقصْرًا على الناس...! ولا أفهم لماذا لايتم الاستفتاء عليها..؟ هل يُخشى من أن ترفض الأغلبية المسلمة أحكام الشريعة الإسلامية..؟؟! هذا أمر مستبعد طبعا.. ولكن على افتراض أن هذا قد حدث بالفعل.. فماذا يعنى..؟؟ إنه يعنى ببساطة أن المسلمين يجهلون الشريعة ويجهلون أهمية تطبيقها فى حياتهم.. وأنهم لا تربطهم بالشريعة وشائج روحية ولا وجدانية.. وكل هذه افتراضات خاطئة.. إذْ ربما يكونون فى حاجة إلى مزيد من التعليم.. و من التربية الإيمانية.. فمن هو المسئول عن ذلك...؟ ومن هو المقصّر الذى لم يؤدِّ واجبه فى الدعوة والتربية..؟ ألا يتحمّل دعاة الإسلام الذين يقولون بضرورة تطبيق الشريعة المسئولية الأساسية فى هذا المجال..؟! وهل سأل أحدهم نفسه: أي نوع من الدول تلك التى تُطبّق فيها أحكام وقوانين رغم إرادة الشعب..؟! أليست هذه دكتاتورية ..؟ ولا يهم بعد ذلك عنوانها: "إسلاميّ كان أو غير إسلامي"...؟ ثم ما الفرق بينكم وبين أولئك الذين تستهجنون موقفهم من الاستفتاء على التعديلات الدستورية.. وتقولون إنهم يريدون القفز عليها.. ويحتقرون إرادة الشعب الذى صوّت عليها بنعم...؟! لست أنسى أبدا ذلك الخلل فى منطق أحد الأمراء وهو يجيب على سؤال صحفي أمريكي: لماذا لا تطبقون الديمقراطية فى بلادكم...؟ فأجابه الأمير إجابة عجب.. قال: إن بلادنا لها وضع خاص فى العالم، فنحن حُرّاس البيت الحرام ومسئولون عن تهيئته لكل المسلمين.. [كلام حسن حتى الآن ولكن أنظر إلى ما قاله بعد ذلك] إنه يقول: " فلو أن الشعب بحكم الديمقراطية رفض أن يقوم بهذه المهمة المقدسة.. وأهمل البيت الحرام.. وقعنا فى مأزق عالمي..." إنه يبنى رفضه للديمقراطية.. أو بمعنى آخر رفضه أن يشترك الشعب فى حكم نفسه بنفسه.. ويساهم فى اتخاذ القرارات التى تخصه وتتعلق بمصالحه وحياته ومصيره.. على أساس من افتراض خاطئ، بل مستحيل تصوّره، من شعب كله مسلمين.. عاش قرونا يحتضن قِبلة الإسلام، ويرعى المسجد النبوي...! مالفرق بين هذا الافتراض وبين إلإفتراض [الضمنيّ] فى خطابكم أن يرفض الشعب المصرى المسلم أحكام الشريعة الإسلامية فى استفتاء عام..؟! الملاحظة الثانية: قال أحدهم "إن تطبيق الشريعة فرض لازم على الناس أجمعين، بل هي فرض على الإنس والجن".. وأقول: إن العبارة الثانية جاءت نشاذا فى هذا السياق..؟! وهى بإقحامها فى هذا السياق -من الناحية المنطقية- زيادة لا لزوم لها...؟! بل إنها تضعف القضية و تقلل من قيمتها.. فنحن لا نعرف شيئا عن عالم الجن أكثر مما ذكره القرآن، وما ورد فى بعض الأحاديث النبوية، عن هذا العالم .. ومهما يكن الأمر فالمسلمون ليسوا مطالبين بأن يربطوا احتياجهم للشريعة بحاجة الجن إليها..! ولسنا مطالبين بالانشغال بهموم الجن ومشكلاتهم ونحن لم نفرُغْ بعدُ من هموم البشر ومعضلاتهم... الملاحظة الثالثة: يصف أحدهم الرافض لتطبيق الشريعة الإسلامية بأنه "أعمى العين وأعمى القلب".. فهل هذا خطاب يليق من داعية..؟ أليس هناك احتمال ثالث وهو أن هذا الشخص قد يكون واحدا من الناس الذين يجهلون الشريعة..؟ ألا يصح أن يكون خطاب الداعية أفضل من هذا فيقول "اللهم اهدِ قومى فإنهم لا يعلمون.." الملاحظة الرابعة: قال أحدهم "لا يجوز فصل الأرض عن السماء ولا الدنيا عن الدين، ولا يجوز فصل الدين عن الدولة" وهو كلام صحيح وجميل.. ولكنه يضيف بعد ذلك كلاما يدلل به على صحة قضيته فيقول بأن "المسيح عليه السلام عندما ينزل في أخر الزمان سيحكم بالشريعة الإسلامية.. " إنه يعلّق دليله على أستار الغيب الذى لن يشاهده هو ولن يشاهده مستمعوه.. وبذلك أضعف قضيته.. وهو يتصور أنه يدعمها بدليل دامغ...! وهكذا ترى أن عدم الالتزام بالدقة فى التعبير يضعف القضية المطروحة وقد يثير الجدل و السخرية ولا يؤدى إلى الاقتناع ... الملاحظة الخامسة: انتقد أحدهم المنادين بالديمقراطية والحرية على الطريقة الغربية، لأنها "تبيح الشذوذ الجنسي وتسمح للمرأة بالتعري والخلاعة والميوعة" .. ونحن عادة ما نسمع مثل هذا الخطاب من أشخاص لم يفهموا الديمقراية ولا الحريات التى توفرها الديمقراطية للناس.. أما الشذوذ والتعرّى والخلاعة فهذه آفات إجتماعية تتبع منظومة أخرى فى المجتمع هى منظومة القيم الأخلاقية والدينية المفتقدة.. وشيوع مذاهب واتجاهات إباحية وانحرافات أخلاقية.. فليس هناك تلازم أو ارتباط حتميّ بين الديمقراطة وبين هذه الآفات والانحرافات.. ولا تمنع الديمقراطية.. ولا مبادئ الحرية [وهى مبادئ إسلامية أصيلة] الناس من الاستقامة على جادة الطريق، إذا أرادوا الاستقامة.. ربما كان الأهم من كل ذلك أن نفهم أن كثيرا من هذه الانحرافات الأخلاقية وحتى القرارات التى اتخذتها الحكومات الغربية فى هذا الصدد[لأسباب سياسية وحزبية] مثل قوانين الزواج المثليّ بين الشواذ، لم يُؤخذ رأي الشعوب فيها.. ولم تُعرض فى استفتاءات ديمقراطية.. لأن نسبة كبيرة جدا من الناس ترفض هذه الانحرافات.. وبالمثل فإن بعض القرارات المصيرية لهذه الحكومات -كالدخول فى حرب العراق وأفغانستان- قد اتُّخِذَتْ ضد إرادة الشعوب وضد الديمقراطية، وليس بسببها كما يتوهم بعض الناس.. ومهما يكن الأمر أقول: يا أخى خذ من الديمقراطية ومن الحرية ما يفيد مجتمعك، ودعْ لهم إنحرافاتهم .. فهذه ليست حزمة إجبارية، إما أن تأخذها كلّها أو تدعها كلها.. هذا فهم خاطئ ولا يصحّ تمريره بجهالة واستخفاف إلى عقول الجماهير.. الملاحظة السادسة: قال أحدهم مهوّنًا من اعتراض الولاياتالمتحدة على تطبيق الشريعة فى مصر "لا داعي للخوف من تدخل أمريكا... ويجب أن لا نخاف من أحد على الإطلاق سوى الله سبحانه وتعالى، لأن أمريكا تطبق الشريعة الإسلامية على المسلمين الذين يعيشون على أراضيها".. ولا أدرى ما أهمية أمريكا فى القضية.. سواء قبلت أو رفضت الشريعة فى مصر..؟ ثم من أين جاء الخطيب بحكاية أن أمريكا تطبق الشريعة الإسلامية على المسلمين الذين يعيشون على أراضيها..؟!" الملاحظة السابعة: قال أحدهم "...إننا سننتصر على إسرائيل بفضل تمسكنا بالإسلام وبالشريعة الغراء، حيث سينطق الشجر والحجر ويقول: يا مسلم ورائي يهودي تعالى فاقتله".. ومرّة أخرى يعلّق أخونا الانتصار على الاحتلال الإسرائيلي على أستار الغيب المرتبط بأحداث آخر الزمان .. وكأن إسرائيل ستظل جاسمة على صدر الشعب الفلسطيني المجاهد المحاصر إلى ما قبل يوم القيامة بقليل...! هكذا تصطدم فى كل خطوة وأنت تحلّل هذا النوع من الخطاب بكلام سائب غير منضبط بمنطق ولا واقع.. وتصادف تركيبة من عبارات مأخوذة من سياقات مختلفة لا انسجام بينها.. كل سياق فى حد ذاته صحيح إذا نظرنا إليه منفردا معزولا عن السياقات الأخرى.. ولكنها فى هذا الخطاب قد تم ربطها إرتجالا، بلا تفكير، ولا تمحيص... لذلك أدعو الأخوة إلى مزيد من القراءة الجادة.. فى الثقافة الإسلامية الحديثة، وأنصح فى ذلك بالاطلاع على كتب الشيوخ الكبار: القرضاوي والغزالي ومحمد عمارة وغيرهم، من العلماء الذين خاضوا معارك الفكر الإسلامي، وأتقنوا فنون الخطاب الإسلامي فى البيئات الثقافية المختلفة.. للجماهير وللخاصة على السواء.. وقد تعلّم عنهم تلامذتهم أن يميّزوا فى الخطاب الإسلاميّ بين: الدعويّ.. والفقهيّ.. و السياسيّ.. وحتى لا يخطئ أحد فهم ما أقول أنبّه إلى أن التمييز هنا ضروري، لسببين هما: الاختلاف فى هدف الخطاب، والاختلاف فى الجمهور الذى يتوجّه إليه الخطاب.. ومن يختلط عليه الأمر فلا يدرك أهمية التمييز فى الخطاب الإسلامي على هذا النحو يحتاج إلى أن يتعلم كثيرا... كما أنصح الإخوة الذين ينشدون المعرفة عن المجتمعات و الثقافت الأخرى ألا يكتفوا بالقشور المتاحة بدون جهد، خلال القراءات الصحفية السطحية، وأن يحتاطوا من المبالغات التى تمتلئ بها الكتب التافهة المنتشرة فى الأسواق.. وفى الختام أقول: على قدر ما فى الشريعة من عظمة وسمو يجب أن يكون التعبير عنها على هذا المستوى فى سموّه وإحكامه.. إن الشريعة عروس لا تُزَفّ إلى الناس إلا فى حُلّة قشيبة ، ولا تُقدم أبدا فى أسمال بالية .. وهذا النوع من الخطاب السائب الذى عرضنا عينات منه هو نوع من الأسمال البالية التى تخفى محاسن الشريعة الغرّاء، وتبرز وجها قبيحا لا علاقة له بالشريعة.. ولا يصحّ أن يتصدّى للدفاع عن الشريعة من لا يملك نفسه عند الغضب، فأولى به أن يتأسّى بقول رب الشريعة سبحانه:" ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا اللهَ عدْوًا بغير علم..."... ومن يتعالى على المسلمين ويقول لهم: "نطبق الشريعة على رقابكم شئتم أم أبيتم.." هو خاطئ، بل دكتاتورصغير، مهما تترّس خلف المبرّرات والذرائع .. إن هذا الشعب المسلم قد اكتشف هويّته فى اللحظة التى اكتشف فيها حريته وأمسك بزمام مصيره فى يده، وهو يكنّ للإسلام حبّا عظيما.. ولا يرضى عنه بديلا.. فأحسنوا به الظن يرحمكم الله...! [email protected]