لا شك أنك قرأت تلك اللافتة هنا أو هناك ( طيور الرحمن ) ..وغالبا ما ضحكت من التسمية ..بالضبط مثلما يحدث لك حينما تقرأ تلك اللافتات المعلقة بإصرار على محال العصير ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) رغم أن الآية تتحدث عن نعيم أهل الجنة وليس عن شاربي عصير القصب بربع جنيه..بل وصلت البجاحة وسوء الأدب أن يضع أحدهم على محل أزياء هذه الآية الكريمة ( وكل شيء فصلناه تفصيلا ) .. بالتأكيد قد لفت نظرك هذا التمسح بالإسلام في أمور لا علاقة لها بالدين الذي لم يتدخل في حياة البشر إلا في أضيق الحدود لأن الأصل في الأشياء هو الإباحة ..وعلى سبيل المثال لا توجد طريقة إسلامية لطهي الملوخية وأخرى كافرة ..ولكن هذه اللافتة وغيرها تعكس ثقافة عامة في الشرق عموما وفي مصر خصوصا.. اختيار الاسم هنا ( طيور الرحمن ) له دلالة عميقة ..يعكس حقيقة أن تجارة الدين شديدة الربحية بطبيعتها ..فهي تمنح الإنسان شرعية لا شك فيها وإذن لدخول قلوب العامة ..وهي وسيلة تستخدمها الحكومات كما يستخدمها الأفراد ..الحكومات المتعاقبة لم تتورع عن استغلال الأزهر الشريف سليل الأجداد العظام كوسيلة لتمرير مشاريعهم ففي المشروع الناصري يرفعون لافتة ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) وحسب المشروع الساداتي تستبدل بلافتة ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ..والنتيجة وبال على قصيري النظر تدفع ثمنها الأمة بأسرها بانهيار هيبة الأزهر العظيم فخر مصر وعزها ليسود الساحة الغزاة الجدد.. وحينما حدثت فتنة الرسوم المسيئة لمقام الرسول الكريم كانت الحكومات المستبدة هي أول من رحب بركوب الموجة للمزايدة على الجماعات الدينية خصوصا أن الدنمارك دولة صغيرة الحجم نسبيا وبلا خطر تقريبا بينما يعلم الكل أن مثل هذه البذاءات وأكثر منها ينشر في أمريكا دون أن يجرؤ حكامنا على فتح فمه ولو بالاعتراض الهامس ..ولم يكن مدهشا أن العنف الذي حدث في التظاهرات الفلسطينية قد جاء من أنصار فتح الذين خسروا الانتخابات لتوهم بينما التزم أنصار حماس الانضباط في التعبير عن رفضهم ..أما المدهش بحق فهي أن الدنمارك من الدول المانحة المؤثرة للسلطة الفلسطينية التي لم تعد – بعد الانتخابات – السلطة الفلسطينية., ...................... شركات نهب الأموال كما تذكرون نشطت في استخدام الدين بالذقون الطويلة والجلابيب البيضاء القصيرة ماركة التدين المسجلة ..وما زلت أذكر رغم السنين الطوال إعلانا لإحدى هذه الشركات فيه حديث مكذوب يقول ما معناه أن مضاجعة المرء لأمه عند الكعبة ( هكذا ؟) أهون عند الله من ربا البنوك ، ولم يتوقف أحد وقتها ليسأل نفسه كيف يكون هذا حديثا للنبي الغالي والبنوك نفسها تسمية مستحدثة ؟؟.. والبنوك أيضا لم تقصر في ركوب الموجه فوضعت لافتات عريضة تنتسب للإسلام ( فرع المعاملات الإسلامية ) وهم أول من يعلمون أن كل البنوك سواء وأن النقود تذهب في نهاية اليوم للفرع الرئيسي ..فقط يسمون الفائدة بالعائد والقرض بالمشاركة ..ويمنحون صكوك غفران لمن يريدها بإلحاح ..وهكذا توصلوا للحل العبقري وعمت السعادة الجميع . شركات السياحة اغترفت من مائدة الدين وانطلقت الحافلات بالريفيات المدقعات يلبسن جلاليبهن البيضاء ويزغردن بعد أن بعن الجاموسة للذهاب للعمرة رغم أنها فرض على القادرين فقط..وتجاوزت أعداد المعتمرين نصف مليون سنويا ينفقون مليارات الجنيهات عمرة بعد عمرة وحجة بعد حجة رغم أن فريضة الحج مرة واحدة في العمر للقادر فقط في الوقت الذي يتركون أخوانهم في الإسلام فريسة الفقر والمرض والحاجة ..ثم لا تملك أن تسأل نفسك لماذا لم يظهر لهذه الصحوة الدينية أي أثر على السلوك العام للمجتمع المصري الذي لم يزل – على حد علمي – يمارس شريعة الغاب ؟..ويقينا كل من ذهب هناك يذكر هذه الملاحم التي لا يمكن وصفها في المطار وعند استلام الحقائب يوشك بعضهم أن يفتك ببعض من فرط الضجر وضيق الخلق . باختصار استرزق الكل من تجارة الدين حتى على مستوى ساحرات الريف ومدعي الصوفية وكتاب الكتب الدينية ودعاة الفضائيات فلماذا نستكثر ذلك على هؤلاء البؤساء أصحاب محال الدواجن والعصائر وتفصيل الأزياء؟ ....................................... زمان كان الدين جلبة للبلاء والاضطهاد ..كان المؤمنون يحرقون أحياء ويحتملون التضحية في سبيل عقيدتهم. لم يكن الدين جلبة لنفع دنيوي عند أصحاب الرسالات .عاش النبي صلى الله عليه وسلم والنار لا توقد في داره ثلاث شهور ومالهم غير الأسودين : التمر والماء ..ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي ..وحينما اشتكت له ابنته فاطمة رضي الله عنها من مشقة أعمال البيت وهي جائعة لم يملك لها غير أن يقول باكيا ومواسيا: ألا يرضيك يا فاطمة أن تكوني سيدة نساء العالمين ؟ وكل إتباع الأديان السماوية ذاقوا الأمرين خصوصا في البدايات..كان ربط الحجر على بطون الصحابة من فرط الجوع أمرا معتادا لا غرابة فيه ..وكان الإمام علي كرم الله وجهه ينفق النهار في نزع البئر وأجره تمرات تملأ الكف ..سيدنا بلال يظنه الناس مصابا بالصرع وما به إلا الجوع..أما فتى قريش المدلل مصعب بن عمير فلم يجدوا ثوبا يغطي وجهه وقدمه حينما أرادوا أن يدفنوه بعد استشهاده في غزوة أحد..وحينما حملوا غنائم كسرى للإمام الزاهد عمر بن الخطاب تذكر شهداء أحد وبكى .. دائما ما كان دفع الثمن مرادفا لصدق العقيدة ..وكانت شبهة الاستفادة المادية مدعاة للشك في صدق الدعوى وتكررت آيات كثيرة تؤكد على ذلك المعنى ( قل لا اسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ) و ( قل لا اسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) و (ويا قوم لا اسئلكم عليه مالا إن أجري إلا على الله ) ( وما اسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ) وغيرها الكثير . .................... لكن صار الدين اليوم جلبة للربح ومدعاة للأبهة وما عاد الاسترزاق باسم الدين مدعاة لخجل أحد واستفادوا أشد الاستفادة من تلك القابلية للتصديق عند الشعوب العربية والتي لولاها ما وجد الأدعياء منفذا إلى قلب الأمة .فكل كلام مصدق عند العامة..المهم أن تكون ثابتا ومقنعا ولك سمت العلماء أما البضاعة فلا أحد يفرق بين الجيد والغث .. فقط فلتكن لك لحية أنيقة ( وتفضل بيضاء ) وتحدث بصوت خفيض متعب لو كنت نويت أخذ سمت العلماء أو بصوت جهوري متحمس إذا أخذت سمت الدعاة ولا تنس الحديث عن العطارة والأعشاب فهذا مهم جدا ويروق للعامة ..ولا تنس وضع العطر المقبض إياه ..ودس في كلامك أكبر قدر من الأحاديث الشريفة ولا تهتم بإسنادها فلن يدقق وراءك أحد..وإذا اتبعت نصائحي تلك بدقة فلك أن تطمئن على مستقبلك المهني دون أن تتعرض لكبسات الشرطة .. وهذه القابلية للتصديق ليست مقصورة فقط على الدين بل تمتد لتضرب جذورها في كل نواحي الحياة ..يخرج من يقول أنه أكتشف أن شرب الماء على الريق يشفي من السرطان فيجد من يصدقون ..وآخر يقسم لك أن الحمام قادر على شفاء مرض الالتهاب الفيروسي سي وأن شركات الأدوية الكبرى تحاربهم لتحافظ على المكاسب الطائلة فيتحمسون غاية الحماس .. يزعم أحدهم أن الزئبق الأحمر يضاعف النقود فيخرجون نقودهم من تحت البلاطة ..الناس عندنا يصدقون أي شيء لأنهم يريدون التصديق فثقافة البحث عن معجزة منتشرة عندنا وكأننا نحيا في العصور الوسطى ..والحقيقة المرة أنه لا أمل في تغيير تلك الثقافة في الأمد المنظور طالما لم تكن هناك وقفة من علمائنا الأجلاء لنلحق بركب النهضة الغربية التي قامت على طلب البرهان على أي قضية وكنا نحن أولى بها بحكم القواعد العلمية الصارمة التي قام عليها الفقه الإسلامي على يد الأئمة العظام في عصور الاستنارة..وحتى تحدث هذه الوقفة فسيظل الحال على ما هو عليه وستقابل أمثال هذه اللافتات ( طيور الرحمن ) في كل ركن من أركان المحروسة وخصوصا بعد ظهور أنفلونزا الطيور لبث الطمأنينة في القلوب الفزعة فبالله عليكم من سيجرؤ على الشك في صحة وسلامة طيور الرحمن ؟.