تابعنا مع كثيرين باهتمام بالغ الانتخابات التشريعية التي جرت في تونس 26 أكتوبر 2014م. وكان أبرز ما شد الانتباه أن الفائز بأكبر عدد من المقاعد(83مقعداً) هو حزب "نداء تونس" المحسوب ضمن "فلول نظام بن علي" الذي أطاحته الثورة التونسية، أو هو بالأدق "فلول مشكل" يجمع: بعض الوطنيين، مع أنصار الرئيس الهارب بن علي، وبعض رجال أعماله، مع علمانيين، وليبراليين، وفاسدين من العهد البائد. بينما فاز بالمرتبة الثانية (68 مقعداً) حزب حركة النهضة بزعامة الشيخ راشد الغنوشي الذي شارك في نجاح ثورة تونس، وتولى المسئولية ضمن "ترويكا" الحكم خلال السنوات الثلاث التي تلت الثورة، ثم انسحب من الحكومة رغم حيازته أغلبية مقاعد المجلس التأسيسي؛ مؤثراً المحافظة على سلامة مسار التحول الديمقراطي، ومعلياً مصلحة الوطن على المصلحة الحزبية. المضحك المبكي أن وسائل الإعلام المصرية والعربية المناهضة للحريات العامة وللقيم الديمقراطية، والمدافعة عن عروش المستبدين وكروش الفاسدين؛ كادت أن تتجاهل هذا الحدث الجلل؛ اللهم إلا من بعض التهليل لتقدم "نداء تونس" ليحل أولاً، وتهليل أكثر لتراجع "حركة النهضة" إلى المرتبة الثانية (لاحظ أن الحركة حصدت ما نسبته 32% من جملة المقاعد النيابية). ولم تختلف تغطيات تلك الوسائل "الإع..لامية" عن بعضها في وصف ما حدث بأنه "صفعة" للإسلاميين كما قال بعضها، وقال بعضها الآخر إن النهضة "خاسرة"!. وبعضها هرع إلى التعميم الكاسح ليقول على لسان أستاذ للعلوم السياسية(مع الأسف) "إن نتايج انتخابات تونس بداية انحسار الإسلام السياسي في الوطن العربي" !!. اضحك. أو ابك. أو افعل شيئاً آخر تختاره أنت لتعبر عن موقفك من مثل تلك المعالجات "الإع...لامية" على طريقة بلال فضل. ولكن في كل الأحول فإن ما لا يستطيع أحد إخفاؤه هو أن "شمس الحرية" سطعت على تونس الخضراء غداة إعلان نتيجة هذه الانتخابات. حتى ولو كان الفائز بالترتيب الأول حزب مشوب بفلول نظام أطاحته الثورة التونسية. فكل المؤسسات الحقوقية التونسية والعالمية شهدت بنزاهة الانتخابات. وكل الأطراف المتنافسة تقبلت النتيجة وأقرت بها دون عصبية، ودون استدعاء مخزون الأسلحة الفاسدة لعهد الاستبداد البائد. يتغاضى المهللون تقدم "نداء تونس"، وتراجه "حركة النهضة" عن أن تونس رزقت قيادة حقوقية نبيلة من طراز الرئيس المنصف المرزوقي. هذا الرئيس النبيل كان قد استبق الانتخابات بتصريحات بالغة العمق في التأكيد على مركزية "الحرية" وضمانات التحول الديمقراطي وأولويتها على أي شيء آخر. وفي هذا السياق أعاد هذا الرئيس النبيل تعريف "السياسة" ببراعة يحسد عليها عندما قال إنها في مرحلة التحول من نظام مستبد إلى نظام ديمقراطي تعني: خفض درجة الاحتقان بين أبناء الوطن حتى يصل لبر الأمان. ولا يقل أهمية عما سبق خروجُ الشيخ راشد الغنوشي عقب الإعلان الرسمي لنتائج الانتخابات ووجهه يتلألأ كالقمر ليهنئ حزب "نداء تونس" لفوزه بالمرتبة الأولى على عادة الأحزاب العريقة في الديمقراطية . وقبل ذلك بأيام كان الشيخ قد أكد على أن خسارة الحرية وكسب السلطة معناه الاحتراب لحد العدم ، أما كسب الحرية وخسارة السلطة فمعناه التنعم بالحرية والاجتهاد في سبيل الإصلاح والنهضة مع المجتهدين من أبناء الوطن، وأن هذا هو جوهر الحرية السياسية الإسلامية في صميمها . لم يتفطن "الإع...لام" المصري ولا العربي (المناهض للحريات العامة وللقيم الديمقراطية) للسياق العام الذي جرت فيه الانتخابات التونسية، ولا لأولوية "الحرية" على أي اعتبار آخر لدى القوى المتنافسة وفي القلب منها حركة النهضة. وحتى لم يشأ المحللون "(السياسيون جدا!) أن يقرأوا الحدث في إطاره المجتمعي والإقليمي الملتهب حول تونس؛ وفضلوا أن يمارسوا رذيلة النفاق والتزلف والتشفي في الخصم السياسي والمشاركة في تزييف الوعي تجاه ما حدث في تونس؛ رغم أن ما حدث كما ترى لا يعتبر هزيمة بالمعنى الحصري للكلمة، وإنما هو تراجع نسبي من الموقع الأول إلى الموقع الثاني وعبر صندوق انتخابي شفاف ونزيه وحر. ولكن ماذا نقول ؟! هذه نكبتنا في نخبتنا. ولن نأس عليها كثيراً. والأمر الأهم هو أن نتفطن إلى أن المجال الوحيد في الثقافة السياسية الإسلامية الحرة ؛ الذي تجوز فيه الهزيمة ويُقبل فيه التراجع ؛ هو مجال التنافس الديمقراطي الحر. لأن هذا التنافس يقوم ابتداءً على سنة التدافع والتداول على السلطة. وهذا ركن رئيسي من أركان العملية السياسية في أي بلد كان يحكمه نظام أوتوقراطي مستبد وفاسد مثل نظام بن علي لأكثر من عقدين من الزمان. والأمر المهم أيضاً أن نتفطن إلى أن من أبجديات الحرية معايير الثقافة السياسية الإسلامية أن الأيام دول. وأن التراجع النسبي لحركة النهضة في هذه الانتخابات لا يعني هزيمتها بأي حال. حيث ستظل أحد أهم مفاتيح المشهد السياسي التونسي خلال الخمس سنوات المقبلة سواء كانت في الحكومة، أو في المعارضة. ومن المؤكد كذلك أن تراجعها سيظل يحمل اسمه وهو أنه "تراجع"، ومن الخبل تسميته بغير اسمه؛ ولكن البراعة هي في كيفية اغتنام الفرصة للمراجعة وممارسة فضيلة النقد الذاتي وبذل مزيد من الجهد لبناء "مجتمع الحرية"، وتجميع عناصر القوة السياسية والديمقراطية على هذه القاعدة الذهبية. المهللون هنا وهناك لمجرد "تراجع" حركة النهضة عن الموقع الأول للموقع الثاني عبر عملية انتخابية نزيهة، يتغافلون عن أنها ورثت عن النظام السابق بلدا مفلسا ومدمرا من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية، لا يشبهه إلا ما تركه نظام مبارك المخلوع. وهؤلاء وأولئك يطمسون حقائق ما حدث من تجريف منهجي للحياة الروحية والتعليمية والاجتماعية والمعرفية والثقافية في عهد بن علي الهارب. ويتجاهلون أيضاً أن حركة "النهضة"حاولت واجتهدت في مواجهة الأوضاع الكارثية الموروثة مع شركائها في "ترويكا" الحكم. ولكن ثلاث سنوات من المطالب الفردية والجماعية الكثيفة وفارغة الصبر، وثلاث سنوات من شح الموارد، ومن مناورات المافيات المالية والأمنية وأركان الدولة العميقة للنظام السابق؛ بالإضافة إلى امتلاك أجهزة النظام السابق لخمسة قنوات فضائية محترفة في الكذب والتزوير، ولأغلب الصحف اليومية والأسبوعية والدوريات السياسية والفكرية الفرنسية والعربية التي لا تقل عنها احترافاً، وكلها عملت وساندت حزب "نداء تونس" بتشكيلته الفلولية؛ كل هذا كان له أثر بالغ في رسم خريطة الواقع السياسي والحالة النفسية للسواد الأعظم من التوانسة. أما على الضفة الأخرى فنجد أن حركة النهضة لا تمتلك حتى اليوم سوى صحيفتين: واحدة يومية، وواحدة أسبوعية، ووثلاث قنوات فضائية مستجدة في الحقل الإعلامي، وخبرتها لا تزال محدودة في العمل التنافسي والمفتوح في أجواء الحرية . تلك الوضعية في مجملها أعاقت ولا شك حركة النهضة وأربكتها في لحظات كثيرة خلال الثلاث سنوات الماضية؛ إضافة إلى مناورات وإرباكات "الاتحاد التونسي للشغل" الموالي "لليمين الماركسي" كما يسميه بعض المحللين التونسيين؛ لأن هذا الاتحاد لم يكن يوما معنيا بالحركة العمالية بقدر التزامه بالبرجوازية الطفيلية وثقافتها المدمرة والحداثوية. وإضافة كذلك إلى ما عرفته تونس من تدخل فج للدوائر الشوفينية الفرانكوفونية وليست الفرنسية الإنسانية الراقية والمهذبة، وكذلك تدخل المال والمسعى الإماراتي غير الحميد ؛ كل ذلك أسهم في إرباك تجربة "حكم الترويكا" الذي شاركت فيه حركة النهضة، وتحملت معظم أوزاره. يعرف أبناء حركة النهضة وفي مقدمتهم الشيخ راشد الغنوشي أن هنالك أخطاء استرتيجية وقعوا فيها..ولعلهم يدركون الآن أن أمامهم فرصة ذهبية للمراجعة سواء كانوا في السلطة؛ إذا نجحوا في تكوين تحالف أو ائتلاف مع الأحزاب الصغيرة، أو كانوا في المعارضة. إن ما كشفت عنه الانتخابات التونسية الأخيرة يستحق الكثير من التحليل المتعمق والنظر المتأني؛ عوضاً عن المعالجات "الإع..لامية" السطحية والمضحكة/المبكية على حالنا. ويقيني أنه تحت أضواء شمس الحرية التي سطعت على تونس؛ سيكون المستقبل بإذن الله للمشروع الوطني الإسلامي؛ لأنه يمثل القوى المجتمعية الصاعدة بعد طول تهميش، ولأنه يربط بين الأجيال الجديدة بمن فيهم الشباب والمرأة والتجمعات الشعبية من مختلف الاتجاهات السايسية تحت مظلة "الحرية" بمفهومها الإسلامي الأصيل؛ ولأنه يستلهم سنن التغيير المجتمعي ويؤمن بالديناميكيات الاجتماعية والتاريخية، ولأنه أيضاً يؤمن وفقاً لمرجعيته الإسلامية وحقيق به أن يؤمن بالتعدد ضمن الوحدة وبحق الاختلاف وتداول السلطة سلمياً. وهذه كلها تباشير عصر عربي وحتى عالمي جديد من التحولات الكبرى باتجاه تحرير إرادة الإنسان، وبلوغ مجتمعاتنا إلى مستوى الولاية على نفسها.