هناك خارطة طريق أعلنت في 3 يوليو 2013 ، أيا كان الخلاف حولها ، وتم على أساسها إجراء عدة خطوات لصياغة مشروعية جديدة للنظام السياسي الجديد في مصر ، وكانت الخطوة الأهم والأخطر هي صياغة دستور جديد للبلاد ، والدستور هو أبو القوانين وهو صانع الشرعية لأي نظام حاكم ، وأي خروج على مقتضى الدستور يعني أن النظام القائم يعمل بمنطق القوة وليس بمنطق الشرعية الدستورية ، وهذا ما يجعل الالتزام بالدستور ، خاصة في بناء هياكل الدولة الأساسية أمرا بالغ الخطورة ، ولا يقبل التسويف ولا التلاعب ولا "الهزار" ، فهل وقع النظام السياسي المصري الحالي في أزمة فقدان الشرعية الدستورية ؟. في الثامن عشر من يناير 2014 الحالي صدر قرار رئيس الجمهورية المؤقت عدلي منصور ببدء العمل بالدستور المصري الجديد الذي تم الاستفتاء الشعبي عليه بتاريخ 14 ، 15 يناير من العام نفسه ، وبالتالي أصبح هذا الدستور هو مانح أو مانع الشرعية للنظام السياسي المصري بكل مكوناته ابتداءا من يوم 19 يناير 2014 ، وكان الدستور قد نص بوضوح كامل على أن هناك استحقاقين انتخابيين لا بد من أن يتم إجراؤهما عقب إقرار الدستور خلال مدة أقصاها ستة أشهر من بدء العمل بالدستور ، انتخاب رئيس للجمهورية وانتخاب البرلمان ، وكان المنطق الديمقراطي البديهي يقول بأن انتخاب البرلمان هو الخطوة الأولى ، لأنه يمنع الفراغ التشريعي ويعزز الحضور الشعبي في إدارة شؤون الدولة ويستوعب الحراك السياسي في أهم مؤسسة ديمقراطية على الإطلاق كما أنه يحقق رقابة شعبية مؤسسية على أداء السلطة التنفيذية ويضمن عدم تغول سلطة على أخرى ، لكن لأمر ما ، طبخ صناع الديكتاتورية فكرة أن يتم تقديم انتخابات رئاسة الجمهورية ، حتى يكون هناك "شخص يشكم البلد" ، ومرت الانتخابات التي أتت بالرئيس عبد الفتاح السيسي ليكون الحاكم المطلق لمصر ، فهو صاحب القرار الأول والأخير بدون شريك ولا مراجع لاختيار الحكومة والوزراء ومحاسبتهم ومراقبتهم وعزلهم وهو صاحب القرار الأوحد في صياغة التشريعات وفرضها بدون حسيب ولا رقيب ، وقد أساء استخدام هذه الصلاحية "المؤقتة" في وضع حزمة من التشريعات كانت تقتضي وجود برلمان يعبر عن الشعب المصري ، بل إنه تعمد إصدار تشريعات قضت لجان الفتوى والتشريع بمجلس الدولة ببطلانها وعدم دستوريتها ، مثل قانون محاكمة المجندين عسكريا ومع ذلك أصدر قرارا بقانون "تشريع" بنفاذه في مؤشر واضح على عدم احترام القضاء . غير أن الأخطر من هذا كله أن الدستور الجديد ألزم الدولة بجميع سلطاتها أن تجري انتخابات البرلمان في موعد أقصاه ستة أشهر من تاريخ العمل بالدستور ، أي أن الدعوة لانتخابات البرلمان الجديد وفق الدستور كان يتحتم أن تتم في موعد لا يتجاوز يوم التاسع عشر من يوليو للعام الحالي 2014 ، وهذا نص المادة : 230 ، والتي تقول حرفيا : (يجرى انتخاب رئيس الجمهورية أو مجلس النواب وفقا لما ينظمه القانون ، على أن تبدأ إجراء الانتخابات الأولى منها خلال مدة لا تقل عن ثلاثين يوما ولا تجاوز التسعين يوما من تاريخ العمل بالدستور ، وفي جميع الأحوال تبدأ الإجراءات الانتخابية التالية خلال مدة لا تجاوز ستة أشهر من تاريخ العمل بالدستور) . وبموجب نص الدستور والمادة 230 فإن النظام السياسي المصري الحالي هو نظام مخالف للدستور ، وأي تشريعات أو قرارات تصدر بعد 19 يوليو 2014 هي غير دستورية ، وأي حكومة تتشكل بعد 19 يوليو هي حكومة أمر واقع بلا شرعية دستورية ، وأي اتفاقات دولية أو إقليمية تجريها الدولة المصرية هي اتفاقات غير شرعية وغير دستورية ، لأن كل هذه النواحي اختص بها مجلس النواب وفقا للدستور ، إنشاءا أو موافقة ، فلا تمضي إلا بموافقته ، وتعمد السلطات الحالية أن يكون غير موجود يعني سحب الشرعية عن كل ما سبق ، والمادة 101 من الدستور تنص علي أن (يتولى مجلس النواب سلطة التشريع ، وإقرار السياسة العامة للدولة ، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية ، والاجتماعية ، والموازنة العامة للدولة ، ويمارس الرقابة على السلطة التنفيذية ، وذلك كله على النحو المبين في الدستور) ، ناهيك عن أن الوزارة التي يصدر بها تكليف من رئيس الجمهورية لا بد أن تحصل على موافقة مجلس النواب ، فإن لم تحصل على موافقته فهي غير شرعية ويطلب الرئيس من أكبر كتلة برلمانية أو حزب داخل البرلمان تشكيل الحكومة ثم يتم عرضها على البرلمان .. وهكذا ، وطالما لم يتم فعل ذلك التزاما بالدستور فكل تلك الوزارات باطلة بنص الدستور ، ويتحمل من تعمد تعطيل الانتخابات أو تأجيلها بالمخالفة للدستور المسؤولية الكاملة عن ما فعل . القضية بالغة الخطورة ، وهناك تعتيم عليها كلما أتى ذكرها ، وتلويح جلسات "المصاطب" عن ضرورات الأمن القومي والتحديات الأمنية والمواءمات ، وكلها هراء لا صلة له بالدستور ولا يوجد أي استثناء يسمح بهذا الهراء في الالتزام بنص الدستور ، والرئيس السيسي مدرك للأزمة ولكنه يشير إلى أنه مهتم بإجراء الانتخابات البرلمانية احتراما لخارطة الطريق ، وهذا غير صحيح وغير قانوني ، لأن خارطة الطريق انتهت بإصدار الدستور ، والدستور هو الآن خارطة الطريق الشرعية الحاكمة لمصر ، ولكنه يتحاشى أن يقول : احتراما للدستور ، لأنه يدرك أن الوضع الحالي غير دستوري ، وتأخير انتخابات البرلمان غير دستوري ، ويضع النظام كله في صفة غير الدستوري بما يسمح بالطعن على شرعية أن قانون أو تشريع أو إجراء وشرعية الحكومة نفسها ، كما يطرح أسئلة أخلاقية عن سبب الالتزام بالدستور حرفيا في إجراء انتخابات الرئاسة في موعدها المحدد والمماطلة في إجراء انتخابات البرلمان في موعدها المحدد طبقا للدستور نفسه ، أي أننا نعمل بالدستور وقتما نريد وحسب تقديرنا ومصالحنا ونضعه خلف ظهورنا ونتجاهله عندما لا نريد أو لا تقتضي مصالحنا .