أرى اليوم لزاما علينا أن نضع حدودا واضحة بين قضية الثبات على المبدأ وبين قضية المزايدة في المواقف،وخصوصا بعد هذا الكم من الإرهاب الفكري الذي نمارسه على كل من يطرح طرحا جديدا،أو يضع رؤية اجتهادية جديدة فيما يجوز فيه الاجتهاد. وهذا من الخطورة بمكان إذ سيجعل كل صاحب فكرة جديدة أو طرح قد يكون فيه حل لمشكلات الوطن يخاف من شدة مواجهة أصحاب الألسنة الحداد،والذين لا يملكون إلا المزايدة وفقط. أكتب هذا بعد أن رأينا كم التخوين والهجوم العاصف على بعض الرؤى السياسية التي طرحها بعض الشخصيات الوطنية والمشهود لها بالرجولة والوطنية من كل الأطياف. لكن لمجرد أن رأى هؤلاء السادة طرحا يخالف طرح مجموعة من الشباب إذا بحدثاء الأسنان يشبعون هذه القامات لوما وتبكيتا وطعنا. وهذا يؤذن بشر مستطيرعلى الحركة الوطنية إذ يستوجب ذلك تقزيم القامات ولا يحل لأحد مهما أوتي من حنكة وبصيرة أن يغرد خارج السرب،وفي هذا إفلاس للحركة وعلامة على ضعفها. والمتأمل في سيرة النبي وحياة أصحابه يجد وضوحا بالغا للفارق بين الثبات والمزايدة. فتأمل موقف عمر بن الخطاب مع الصديق رضي الله عنهما يوم الحديبية،وتأمل ماذا قال عمر- وبأي أسلوب قال -:ألسنا على الحق وهم على الباطل،أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ يتكلم عمر مع تأكده التام من ثبات أبي بكر على المبدأ لكن لم يمنعه ثقته بالرسول الكريم وأبي بكر من طرح فكرته. وانتهى الموقف من الرسول والصديق بأن ردوه إلى الأصل الثابت أنه رسول الله ولن يضيعه،دون تخوين أو اتهام أوطعن. ولك أن تتخيل موقف عمر نفسه يوم قرر أبوبكر حرب المرتدين،وانظر لطرحه على الصديق:لنترك حربهم وقتالهم ما أقاموا الصلاة،ونغض الطرف عن أمر الزكاة. فهل اتهمه أبوبكر بالخيانة والعمالة وأنه قد عقد صفقات مع مانعي الزكاة؟! كلا وحاشاهم فأبوبكر يثق في إيمان عمر وثباته ولكن لا يمنع ذلك الثبات من طرح أفكاره ربما حققت للأمة مكسبا ومغنما،فلما رد أبوبكر الشبهة كان عمر أول المجاهدين معه. وهذا كثير في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم راجعه في غزوة بدر واختيار مكان الجيش وإقامة العريش له،ويوم أحد حين استشار أصحابه في الخروج للقاء العدو أم البقاء في المدينة ،ويوم الخندق ،وأسرى بدر،...... ولا يتسع المقام لتعداد تلك الحوادث الاجتهادية التي أثرت الحياة السياسية والحربية والاقتصادية والاجتماعية للمسلمين،فما بالكم وذلك يحدث ورسول الله بينهم يتنزل عليه الوحي؟! أفيمنع ذلك الآن ونحن في أشد الحاجة لحلول فذة وآراء عبقرية للخروج من الأزمة؟ أيها السادة :ما أسهل المزايدة وادعاء البطولة والثبات ،وما أصعب أن يتحمل صاحب الرأي مواجهة الجماهير بما فيه من إساءة لتاريخه وجاهه وتشكيكا في وطنيته،لكي ينصح لدينه ووطنه بما يراه صوابا. لذلك علينا أن نحسن التعامل مع الأطروحات الجديدة حتى وإن غردت خارج السرب فقد يستفيد منها الوطن اليوم أو غدا،وإن لم ترق لتحقيق طموح الوطن فلتناقش بهدوء،لنهيء جوا راقيا يتيح لأصحاب الفكر طرح وجهات نظرهم دون إرهاب أو تخوين.