البعد الشعبي في جولة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأخيرة في بعض بلدان جنوب آسيا مثّل إحباطاً كبيراً للإدارة الأمريكية ، وضربة قاضية لمساعي واشنطن الهادفة لإعادة ترميم الوجه الأمريكي القبيح عبر العالم . فقد أجمعت شعوب البلدان التي شملتها الزيارة على موقف الرفض للتواجد الأمريكي بأي صورة كانت ، كما عكست هذه الجولة والتي شملت أفغانستان والهند وباكستان الرفض الشعبي المتنامي لسياسة واشنطن القائمة على الهيمنة والاستعلاء في ظل إدارة بوش الحالية. ففي أفغانستان خرجت الجماهير منددة بسياسات بوش العدوانية عبر العالم ، رغم الاحتياطات الأمنية الاستثنائية التي صاحبت الزيارة الخاطفة . وفي الهند خرج مئات الآلاف من المواطنين -من مسلمين وغيرهم - منددين بزيارة بوش، ورافعين شعارات : "بوش عُدْ من حيث أتيت"، وفي باكستان كان الاستقبال مختلفاً ومتناقضاً في نفس الوقت؛ ففي الوقت الذي استقبل الشعب الباكستاني بوش بالمظاهرات الغاضبة ، وبتفجير استهدف القنصلية الأمريكية، وراح ضحيته أربعة من بينهم أمريكيين ، شنت القوات الباكستانية هجوماً عنيفاً على المناطق الحدودية بينها وبين أفغانستان مستهدفة تجمعاً سكنياً قالت: إن أفراداً للقاعدة يخططون لشن هجوم بالصواريخ منه على الرئيس بوش مخلفة نحو (40) قتيلاً وجريحاً.. ولعل هذا الرفض الشعبي يمثل عقبة كؤوداً أمام جهود أمريكا لتحسين صورتها ، وخاصة على مستوى بلدان العالم الإسلامي . وجاءت زيارة الرئيس الأمريكي لكابول من باب رفع الروح المعنوية للقوات الأمريكية في أفغانستان ، التي تعاني حالة من اليأس والإحباط بعد عدد كبير من العمليات العسكرية التي نفذتها حركة طالبان ضد القوات الأمريكية والقوات الحكومية؛ مما دفع الرئيس قرضاي نفسه للإعلان عن تفكيره الجاد لتفعيل المفاوضات والاتصالات مع حركة طالبان ، بعد فشل جهوده وجهود الأمريكان في إعادة الأمن والاستقرار للبلاد. وقد جاءت تطمينات بوش للرئيس قرضاي خلال المؤتمر الصحفي، ليعلن - كعادته - عن استمرار الجهود العسكرية حتى القضاء على كافة "الإرهابيين" في أفغانستان؛ وليقطع الطريق بذلك على قرضاي نحو التصالح الداخلي مع قوى المجتمع الأفغاني. الهند قِبلة بوش الأساسية وعلى الرغم من حجم التظاهرات الشعبية التي قُدّرت بثلاثمائة ألف معارض لوجود بوش في الهند، والذي أدمى قلوب المسلمين بحربه الصليبية على الإسلام والمسلمين، كما أدمى قلوب الفقراء الهنود بسيطرة شركاته الرأسمالية على تجارة العالم ليزيد الفقراء فقراً والأغنياء توحشاً وثراء، جاءت زيارة بوش للهند كعلامة فارقة في مسار العلاقات الأمريكية الهندية والآسيوية عموماً؛ إذ استهدف بوش خلال زياراته التأكيد على عدد من المعاني السياسية واصطياد أكثر من عصفور بزيارة هندية واحدة، وأكد خلال زياراته للهند على أن النظام الهندي الديموقراطي لابد من تعميمه في الدول الإسلامية، بإشارته إلى أن الهند على الرغم من وجود عدد كبير من سكانها من المسلمين، ومع ذلك لا يوجد بها تنظيم للقاعدة أو المتطرفين بحسب تصريحاته، مبدياً إعجابه بالتجربة الديموقراطية في الهند، غاضاً الطرف عما يحدث من انتهاكات بحق المسلمين وخاصة في كشمير المحتلة . كما تمحورت زيارة بوش حول أهداف إستراتيجية في عمق الجنوب الآسيوي؛ إذ أكد خلال مباحثاته على أن بلاده لن تسمح بامتلاك إيران قنبلة نووية تهدد بها العالم ( والمقصود بالطبع هو إسرائيل ). وحاول بوش إقناع الهند بوقف الدعم السياسي والتعاون التكنولوجي والاقتصادي مع إيران. اتفاق نوويّ وفي إطار استغلال الهند لموقعها الإستراتيجي ووضعها في جنوب آسيا بجوار عدد من الملفات الأمريكية الملتهبة في إيرانوأفغانستان، سعت الهند إلى استكمال صفقة نووية مع الولاياتالمتحدة، لدعم الطاقة والتكنولوجيا النووية السلمية لديها، في حين يسعى بوش لتجديد الدعم الهندي للحملة الدبلوماسية على إيران، والتي تهدف إلى وقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم، ودفع نيودلهي لإعادة النظر في علاقاتها السياسية والاقتصادية مع طهران . وتُعدّ إمدادات الوقود النووي من الولاياتالمتحدة مهمة للمفاعلات النووية المدنية الهندية التي ستبنيها الهند في المستقبل لإنتاج الطاقة اللازمة لاقتصادها المتسارع النمو. وينهي الاتفاق - الذي تم التوصل إليه خلال الزيارة - بشكل فعليّ وضع الهند كدولة نووية مارقة ،على الرغم من رفضها التوقيع على معاهدة منع الانتشار النووي. ومن ناحية أخرى واجه رئيس الوزراء الهندي معارضة شديدة من حلفائه اليساريين المهمين الذين نظموا احتجاجات ضخمة ضد زيارة بوش وضد الاتفاق النووي المذكور. ضمان الاستبداد مقابل دور الشرطي الأمريكي وفي باكستان كان العنوان الأبرز للزيارة التي جاءت ذراً للرّماد "الحرب على الإرهاب " دون الحد الأدنى من أية الضمانات العسكرية أو الاقتصادية لباكستان ، على غرار ما تم مع الهند الجارة العدوة ؛ إذ ركز بوش محادثاته حول سبل مكافحة الإرهاب، مؤكدا على ضرورة إلحاق الهزيمة بقادة تنظيم القاعدة، من خلال تبادل المعلومات الاستخبارية بين البلدين، ومطاردة قادتها وتقديمهم للعدالة. وقد استبعد بوش إبرام اتفاق نووي مع إسلام آباد شبيه بالذي اتفق بشأنه مع الهند. وجاء موقف باكستان الرسمي ضعيفاً وغير مكافئ للاتفاق النووي الأمريكي الهندي الذي سيهدد أمن باكستان سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. واكتفى "مشرف" بالدفاع عن إستراتيجيته العسكرية في الحرب ضد تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان» الأفغانية، وأكد أن (80) ألف جندي باكستاني يطاردون مقاتلي التنظيم والحركة ، مما أثار قوى المجتمع الباكستاني وخاصة الإسلاميين، الذين أكّدوا على لسان الشيخ فضل الرحمن زعيم تحالف "العمل المتحد" الذي يضم جماعات دينية عدة أن تحالفه سيتظاهر مع الشعب الباكستاني ضد زيارة بوش، ليس لأننا لا نريد علاقة مع أمريكا، بل لأن أمريكا أساءت كثيراً إلى باكستان. واتّهم الرئيس برويز مشرف ب «رهن» سيادة باكستان وقدراتها إلى الأمريكيين منذ اعتداءات 11 سبتمبر 2001، مما سمح للقوات الأمريكية بقصف قرى في المناطق القبلية المحاذية للحدود مع أفغانستان وقتل مدنيين فيها من دون اعتذار أو حساب. ولعل موقف "مشرف" ينبع من مصالح سياسية محدودة تتعلق بموقف أمريكي أكثر مرونة تجاه "مشرف" في مواضيع الإصلاح والديموقراطية، وتفهماً لواقع تزايد الضغوط عليه قبل الانتخابات الرئاسية السنة القادمة . وبذلك نستطيع أن نقرر أن الإدارة الأمريكية حققت نجاحاً باتفاقها مع الهند الذي لم تعارضه باكستان على الرغم من شكواها لأمريكا من نقص إمدادات الطاقة، إلا أن هذه الاتفاقية ستفتح باباً جديداً من إعادة التوتر في العلاقات السياسية في جنوب آسيا، خاصة من قبل الصين تجاه الهند، وربما ستشهد الأيام المقبلة مزيداً من التقارب الصيني الإيراني.. المصدر الاسلام اليوم