قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ . وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ . وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ . وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ . لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ . وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ . أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ . الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ . قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ . قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ . مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ . يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ . وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ . هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ . مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ. ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ . لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ (ق: 16 – 35) ففي الآيات السابقة يلخص المولى سبحانه وتعالى حقيقة خلق الإنسان وموته وبعثه ونشوره وحسابه وجزاءه، بأسلوب معجز وموجز، غاية في البيان والبلاغة والبديع.. وقد خلق الله عز وجل الناس ليبتليهم؛ فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه وقدر عليهم الموت الذي ينالوا به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب. والموت مرحلةٌ يمرُّ بها الإنسان، ومنزلة يَرِدُها، وحقيقة لا يتخطَّاها، وكأس يتجرَّعها، ومنهلاً يسقى منه، وهكذا فإن مرحلة الموت لم يستثني الله منها أنبياءه ورسله، يقول ابن القيم رحمه الله: "فلم يكن ذلك لهوانهم عليه ولكن ليصلوا إلى محل كرامته ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها ومقاساة أعدائهم وأتباعهم، وليحي الرسل بعدهم يرى رسولا بعد رسول، فإماتتهم أصلح لهم وللأمة. فالله خلق الموت والحياة ابتلاءً لعباده واختبارًا لهم؛ ليعلم مَن يطيعه ممَّن يعصيه، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (الملك: 2). وبالموت تصلُ النفس إلى اليقين، وتتعرَّف على حقيقتها؛ من حيث إنها مخلوقة للخالق سبحانه، وأنها مخلوقة لغاية. والموت يخلِّص المؤمن من نكد هذه الحياة التي حشيت بالغُصَص، وحُفَّت بالمكاره والآلام الباطنة والظاهرة، إلى نعيم لا ينفد، وقرَّة عين لا تنقطع، وسعادة لا تنتهي في ظلال وارفة، وبساتين مؤنقة، وجنات دائمة، مع خيرة الرفقاء، وأطيب الأصفياء". الموت هو الحقيقة الكبرى وبداية الولوج إلى دار الخلود.. والموت في منظور الإسلام هو انتقال من مرحلة إلى أخرى (من مرحلة الحياة الدنيا إلى مرحلة البرزخ) تمهيدا للبعث والحشر والحساب والجزاء.. والموت غير محبب للبشر "فأي إنسان على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة جُبِل أو فُطِر على حبّ وجوده، وعلى حبّ سلامة وجوده، وعلى حبّ كمال وجوده، وعلى حبّ استمرار وجوده". وفي كل يوم تتواتر علينا الحقائق، وتؤكد لنا حتمية الموت.. ولابد لا محالة من مفارقة الأحباب.. هذه الحقائق نؤمن بها إيمانًا كبيرًا، بيد أننا في غمار الدنيا ننساها.. ولكننا نتذكرها عند افتقاد عزيز علينا كالدكتور نوير محمود رحمه الله.. ولن يستطيع الإنسان مهما علا قدره أن يهرب من الموت، لأن الإنسان حادث وكل حادث كتب الله عليه الموت والفناء ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الجمعة: 8). وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يجهل الناس زمان ومكان موتهم. يقول سبحانه ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (لقمان: 34) ولعلَّ الحكمة في ذلك أن يكون الإنسان على استعداد لاستقبال الموت في أيِّ وقت وهو على طاعة الله، ذلك أنه لو علم بزمان موته فإنَّ ذلك قد يشجّعه على العصيان، متكلاً على التوبة والإنابة والتسويف قبل مدّة من حلول أجله. لذلك نجد الكثير من الناس في طاعة متصلة لله تحسبا للموت الذي يأتي فجأة... *** لقد تلقيت ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة المغفور له -بإذن الله- أخي وصديقي العزيز الدكتور نوير محمود، (رحمه الله وأكرم مثواه)، وكنت قبل ذلك قد علمت بالمرض العضال الذي لم يمهله طويلا، جعله الله كفارة للذنب، وتطهيرًا للقلب، ليسكن إلى جوار النبيين والصديقين والطيبين الأبرار. وهنا لا أدري ءأُعزي نفسي أم أعزي حضراتكم في وفاة أخي وصديقي نوير (رحمه الله)، فلقد كنت أتشرف بصداقته وأخوته، منذ أكثر من عشر سنين.. ومنذ شهور وقبل أن يخط الموت خطوط النهاية في حياته، التقيته، فأقبل علينا كعادته بسمته الراقي وبوجهه المنير وبصوته الحنون... أقبل علينا بسمو أخلاقه.. ألاق الجبين مشرق الوجه بسام المحيا، في عينيه تشعر بسعة الكون، ومن مفردات كلماته، ووصاله مع الله، تشعر أنه صديق الوجود كله.. كان شامخا في تواضع الكبار، وكان معطاء كشجر النخيل، وكنت دائما حينما أراه أشعر أننا إزاء رجل.. رجل من الذين قال الله فيهم (من المؤمنين رجال...). لقد أعطاه وجهًا منيرًا.. ولسانا حلوا.. وقلبًا كبيرا... ووهبه الله نفسًا سخيةً، جمعت حوله المحبين من كل مكان.. عرفته أخا ملتزما محافظا على الصلاة والفرائض.. حنونًا مساندًا ومساعدا على تحمل الصعاب، ومجاملا.. أنفق عمره سمحا في أداء رسالته تجاه وطنه وأمته، وأدى واجبه بكل جد ووفاء وسخاء.. ولكن ماذا سنقول أمام قضاء الله عز وجل وقدره؟. ففي كل يوم تتواتر علينا الحقائق بأن الموت آت لا محالة، فالموت يسطو على الحياة في جنح الليل وفى وضح النهار، ولا يفرق هذا القدر المقدور بين شيخ وشاب ولا بين ذكر وأنثى، ولا بين مطلوب أو مزهود فيه، إنه تجلِّى لقانون القهر الإلهى، ومظهر من مظاهر مساواة البشر..كل البشر أمام هذا القانون. وإذا كان الضحايا من أبناء البشر بمآت الآلاف في كل يوم ولكن الذاكرة الإنسانية تتوقف فقط عند بعضهم. وقليلون هم أولئك الذين يرحلون عنَّا ويودعون دنيانا وقد تركوا بصمات غائرة في عمق النفس وفي ميادين الحياة؛ فكانوا للدنيا منارات وللخير والبر علامات.. أولئك الرجال يحزن الكون عليهم حين تخلوا منه أماكنهم وتتوقف عن الشهيق والزفير صدورهم.. قليلون هم أولئك الذين ارتفعت هممهم لمعالى الخلود بمواقفهم، فطرقوا أبوابه حتى دخلوا، وبقيت كلماتهم بعد رحيلهم حية نابضة كما يقول أستاذنا الدكتور إبراهيم أبو محمد.. ولقد كان أخونا نوير (رحمه الله) واحدًا من هؤلاء. يتمتع بروح تألف من يقبل عليه فتحبه ويحبك، على ملامحه تبدو البساطة والأصالة، فتواضعه ممزوج بالعزة، وقوة تماسكه ممزوجة بالحنان وقدرته فائقة على تجاوز الصعاب وتحدى المتاعب مهما كانت ثقيلة. ولن تنسينا الأيام والسنون بشاشة وجهه، وذكاءه الحاد، وفكره المتوقد، واحترامه الصغير قبل الكبير، واعتماده على النفس، وطول النَّفَس في العلم والعمل، وصبره على تحمل الصعاب وتسامحه مع الناس.. ولن تنسينا الأيام والسنون سعيه الحثيث لتنقية المجتمع من براثن التخلف والمشكلات لينهض بدوره في البناء وتحقيق الرخاء. ولن تنسينا الأيام والسنون أياديه البيضاء وموافقه الوطنية الشريفة في خدمة قضايا البيئة والتنمية المستدامة والسعي لمعالجة مشكلات المياه... بالإضافة لجهوده الرائدة في مجال الإعلام، والتدريب، وحقوق الإنسان.. وصدق الشاعر العربي حين قال: مات قوم وما ماتت مآثرهم *** وعاش قوم وهم في الناس أموات إن وفاة أخي الحبيب، الدكتور نوير محمود (رحمه الله) يوم 13 أغسطس 2014م، تعد خسارة كبيرة لمصرنا الحبيبة بل ولأمتنا العربية. وإذا كان مصابنا أليمًا في وفاته -رحمه الله- فعزاؤنا أنه ترك بصمات فكرية وأخلاقية لن ننساها ما حيينا .. وندعو الله سبحانه وتعالى أن ينعم عليه بشآبيب رحمته، ويسكنه فسيح جناته، وأن يرد حوض المصطفى (صلى الله عليه وسلم) يوم القيامة. وإننا في رابطة الجامعات الإسلامية لندعو الله تعالى أن يعظَّم الله، ويلهمنا وأهله ومحبيه جميل الصبر والسلوان، فأجر الله وثوابه خير عوض في كل مفقود، أما المرحوم فإن جوار الله خير له من جوار الدنيا.. ولكم من بعده طول البقاء و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
* المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية * عضو اتحاد المؤرخين العرب * عضو اتحاد كُتَّاب مصر