رحل الرئيس اليمني علي عبد الله صالح إلى السعودية للعلاج، لكن نظامه ما زال صامدًا في وجه الاحتجاجات الشعبية الواسعة، التي دخلت شهرها الخامس، ورغم أن بعض التقارير تحدثت عن إصابات بالغة تعرض لها صالح، وهو ما تم نفيه لاحقًا، إلا أن ذلك لم يفضِ إلى انهيار سريع لأركان حكمه، بل واصل أنصاره مظاهراتهم المعتادة كل جمعة، وهو ما يؤشر لدخول اليمن في حالة من الجمود السياسي، بينما أوضاع البلاد الاقتصادية والإنسانية تتدهور بسرعة رهيبة. ومن المفارقة أنه بينما انهارت الدولة في اليمن بمعناها التقليدي، من مرافق وخدمات ومؤسسات، بما في ذلك المؤسسة العسكرية، التي انقسمت لجزء يناصر الرئيس وآخر يدعم الثوار، فإن دولة "الرئيس"، بما تتضمنه من تحالفات عشائرية وأجهزة أمنية وعسكرية، ما زالت قادرة على العمل والذود عن عرشه، رغم إصابة الرئيس وغيابه عن البلاد، مما يؤكد مجددًا أن الكثير من الحكام العرب، وعلى رأسهم صالح والقذافي، استغلوا السنوات الطويلة التي قضوها في الحكم لتشييد دولهم الخاصة، بينما كانت الدولة، ككيان جامع يخدم المواطنين وينظم ويرعى مصالحهم ويفض خلافاتهم، تتفكك وتنهار أركانها حجرًا بعد حجر. الرئيس أولًا وفي كثير من الأحيان كان بناء "دولة الرئيس" يستلزم إضعاف "دولة الشعب"؛ فمثلًا تشمل "دولة صالح" حرسًا جمهوريًّا على أعلى قدر من التدريب، ومجهزًا بأحدث الأسلحة، وفي مقابل ذلك كان من الضروري إضعاف باقي وحدات الجيش، بحيث يكون بمقدور الحرس الجمهوري إخماد أي محاولة انقلابية لتلك الوحدات، وكذلك الأمر بالنسبة للأجهزة الأمنية، فالقطاع الذي يتولى تأمين النظام ومراقبة خصومه، على غرار جهاز "أمن الدولة" في مصر، حصل على صلاحيات مطلقة، وسخرت كل الجهود لخدمته، في حين جرى إهمال القطاعات الأخرى المنوط بها حماية المواطنين وتأمين حياتهم. ولا يقتصر الأمر على الداخل فقط، ف"دولة الرئيس" لها سياستها الخارجية التي يديرها الرئيس بمعزل عن السياسة الخارجية ل"دولة الشعب"، وبدلًا من أن تصبح "مصالح الشعب" هي الهدف الأسمى لتلك السياسة، تم استبدال مصلحة الرئيس بها ودوام حكمه، وإذا ما حدث تعارض بين الأمرين، وهو أمر لا مفر منه، فالأولوية المطلقة هي للرئيس ومصلحته. وتولت أجهزة المخابرات ومستشارون مقربون إدارة هذا الملف، فيما يتم تنحية وزارة الخارجية جانبًا، وتحرك هؤلاء للتأكيد على الخدمات التي يمكن للنظام أن يؤديها للقوى الكبرى، إقليميًّا ودوليًّا، والتشديد على أن استمرار ذلك مرهون ببقاء الرئيس ونظامه، وبالطبع لم يكن هناك مانع من "شيطنة" القوى الأخرى المعارضة، التي تنافس الرئيس على الحكم، بل والسعي لاستحضار ذلك "الشيطان" عنوة إذا لم يحضر طواعية، وهو ما فعله صالح عندما منح ملاذًا آمنًا لتنظيم القاعدة في ربوع اليمن، ثم أخذ يروج لنفسه باعتباره "رأس حربة" في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، وصمام أمان لمنع سقوط البلاد في يد التنظيم. امتيازات ضخمة وإذا كانت "دولة الشعب" تقضي بأن يكون الجميع سواسية أمام القانون، فإن "دولة الرئيس" تقوم على منح الحلفاء والمقربين امتيازات وصلاحيات ضخمة، مكافأة لهم من ناحية، ولضمان ولائهم من ناحية أخرى، حيث إن رحيل الرئيس أو انهيار نظامه يعني ضياع كل ذلك، بل وربما فتح باب المساءلة والعقاب، ولعل ذلك ما يفسر تشبث القوى المتحالفة مع صالح والقذافي في الدفاع عنهما، حيث إن الانهيار يفتح الباب أمام "حساب الشعوب" العسير، بل وحتى "الانتقام الدموي" في ضوء البنية القبلية المترسخة في البلدين. وهكذا استطاعت "دولة صالح" الصمود رغم تصاعد الاحتجاجات الشعبية، بل وحتى في مواجهة مسلحي قبائل حاشد، التي ظن البعض أنها ستكون "القاضية"، وقبل ذلك استطاع صالح احتواء انشقاق الفرقة الأولى المدرعة بقيادة الرجل القوي "على محسن الأحمر"، وبالطبع لا يمكن نسيان حروب الحوثيين في الشمال، والمطالب الانفصالية في الجنوب. وكذلك صمدت "دولة صالح" رغم تدهور أوضاع البلاد الاقتصادية، إذ يعاني واحدٌ من كل ثلاثة يمنيين من "جوع مزمن"، أما البطالة فهي تتراوح ما بين 35 و50%. "صرف العفريت" ومن المفارقة أن تلك "الفوضى الشاملة"، التي زرع "صالح" بذورها بطول اليمن وعرضه في دهاء قاتل، هي التي مكنته حتى الآن من البقاء في الحكم، حتى لو كان مجرد أشلاء ملقاة على محفة في إحدى مستشفيات السعودية، لأنه ببساطة من "حضر العفريت هو الأقدر على صرفه"، وقد تجلى ذلك في رفض عبد ربه منصور هادي، نائب الرئيس اليمني، الرضوخ لمطالب المعارضة ببَدْء عملية نقل السلطة، وتشكيل مجلس رئاسي انتقالي، فالرجل يدرك أن الأمور ليست بهذه السهولة، وأن حلفاء صالح في الحزب الحاكم والحرس الجمهوري وأجهزة الأمن وزعماء القبائل، لن يسلموا بسهولة بخسارة امتيازاتهم ومصالحهم، وسيقاتلون حتى النهاية، أملًا في الوصول لصفقة متوازنة، وهو ما تضمنته لحد كبير بنود المبادرة الخليجية. ورغم أن السعودية والولايات المتحدة، الداعمين الأبرز لصالح عربيًّا ودوليًّا، ضغطتا عليه للقبول بالمبادرة، لتأمين انتقال سلس للسلطة، إلا أن مراوغة صالح وتهربه من التوقيع عليها، لم يجعلهما ينفضان يديهما منه، لأنه لا يوجد بديل قادر على سد مكانه من جهة، ومن جهة أخرى فإن قوى المعارضة تعاني من التشرذم وغياب قيادة موحدة، وانهيار النظام في تلك الأوضاع يعني الذهاب بالبلاد إلى "الفوضى الشاملة"، وهو أمر لا يمكن للرياض وواشنطن السماح به، حتى لو كان البديل هو القبول ببقاء صالح لبعض الوقت. المصدر: الاسلام اليوم