بعد انتقال الدكتور أحمد داود أوغلو من وزارة الخارجية إلى رئاسة الحكومة التركية يهمنا أن نعرف هل ستكون السياسة العربية لحكومته امتداداً لسياسة سلفه رجب أردوغان الذي جرى انتخابه رئيساً للجمهورية؟ أم ستكون لحكومة داود أوغلو سياسة عربية جديدة ومختلفة عن سياسة سلفه؟. أغلب المؤشرات تقول إن السياسة العربية للحكومة التركية في الفترة المقبلة ستتجاذبها قوتان: الأولى تشدها باتجاه "الانكماش" والابتعاد عن القضايا العربية. والثانية تشدها باتجاه مزيد من التقارب ومزيد من التضحية من أجل إدراك المصالح الاستراتيجية المشتركة بين شعوب الأمة الأرجح في نظري هو أن تتجه السياسة العربية للحكومة التركية نحو مزيد من الانكماش الذي بدأت بوادره بالفعل خلال العامين الأخيرين(2013/2014). وكان من تلك البوادر: تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي بين القاهرةوأنقرة، وتصاعد التوتر إلى حد القطيعة من نظام الأسد في سوريا، والعودة إلى "البرود" التاريخي بين تركيا وأغلب دول الخليج وبمقدمتها العربية السعودية، باستثناء قطر، واستمرار حالة التيه التركي في ليبيا، وخروج كثيرين من رجال الأعمال والمستثمرين الأتراك من السوق العربي، أو تجميد مشروعاتهم في أفضل الأحوال. ونلاحظ أيضاً أن أحداً من كبار المسئولين الأتراك لم يقم بزيارة إلى أي من العواصم العربية خلال هذا العام(2014) باستثناء العراق لأسباب معلومة، بعد أن كانت الزيارات خلال الأعوام القليلة الماضية شبه منتظمة. هناك أكثر من زاوية للتأمل في مستقبل السياسة العربية لحكومة داود أوغلو وهي تواجه القوى التي تدفع سياساتها العربية للانكماش، وتلك التي تدفعها للتطور والازدهار. أولها زاوية الأشخاص المسئولين عن صنع السياسة العربية لتركيا وتوجيهها. فتشكيلة حكومة داود أوغلو الجديدة تكاد تكون نسخة طبق الأصل من حكومة أردوغان الأخيرة، فيما عدا وزير الخارجية الجديد مولود جاويش أوغلو. ومن المتوقع أن يستمر التأثير القوي في رسم السياسة العربية لتركيا بيد وزير الخارجية السابق ورئيس الحكومة الجديدة أحمد داود أوغلو؛ أكثر مما سيكون بيد وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو(هو من مواليد سنة 1968، وحصل على شهادته الجامعية في العلوم السياسية من جامعة أنقرة، وتابع دراساته العليا في الاقتصاد في جامعة "لونغ ايسلاند" الأميركية، وتولى التدريس فيها لفترة، ثم تخصص في الاتحاد الأوروبي. وقدنال الدكتوراه في موضوع الاقتصاد البيئي والتنمية المستدامة من معهد لندن للاقتصاد). وقد شغل مولود جاويش منصب وزير شئون الاتحاد الأوربي في حكومة أردوغان السابقة. وستكون الأولوية الأولى لديه هي إكمال مسار انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوربي، وهو قد أوضح ذلك في أول تصريح له بعد تسميته وزيراً للخارجية. هذا فضلاً عن أن معرفته بالشئون العربية وقضاياها تكاد تكون معدومة إذا قارناه بسلفه داود أغلو. وعليه يصبح احتمال انكماش التوجه العربي للسياسة التركية هو الأقوى. ولكن ثمة زاوية أخرى تخفف من احتمال وقوع هذا الأثر "السلبي" على السياسة العربية للحكومة التركية الجديدة نتيجة تغير أشخاص المسئولين ، وهي أن الإدارة التركية تتمتع بدرجة من المؤسسية لا بأس بها. فوزير الخارجية عضو في مجلس الوزراء، وملتزم بتوجهاته وسياساته العامة التي يشارك جميع الأعضاء في رسمها وبمقدمتهم رئيس الوزراء أحمد داود أغلو. وظني أن داود أوغلو سيواصل الموقف التركي الداعم للقضية الفلسطينية، وأنه سيسعى للمحافظة على ما تبقى من علاقات تركيا الإيجابية مع البلدان العربية، وتطوير العلاقات التي أصابها الضرر والتراجع خلال العامين الأخيرين من جراء عواصف الربيع العربي ومفاجآته.ثم إن مجلس الوزراء برمته مسئول مسئولية جماعية أمام البرلمان المنتخب. ويحظى حزب العدالة والتنمية الحاكم بأغلبية مريحة في البرلمان (327 من 550 مقعداً) وهذه الأغلبية حريصة من جانبها على تطوير السياسة العربية لتركيا ربما بدرجة أكبر وأقوى من حرص كثير من الأنظمة العربية ذاتها. أضف إلى كل ما سبق " الرأي العام التركي" الذي بات أكثر تفهماً وترحيباً بتقوية العلاقات العربية التركية، يقابله رأي عام عربي يتقاسم معه هذه الرغبة، وإن لم يجد إعلاماً صادقاً ومعبراً عنه في أغلب البلدان العربية. بينما يجد الرأي العام التركي وسائل كثيرة للتعبير عنه عبر وسائل الإعلام، وتظاهرات التضامن مع غزة، وضحايا انتكاسة الربيع العربي،...إلخ. وأياً كان تأثير تغير أشخاص المسئولين أو الدور المؤسسي للإدارة التركية في رسم ملامح السياسة العربية لحكومة داود أوغلو، فإن الضغوط التي يولدها الواقع العربي، وتقلباته ومفاجآته ومواقف الأطراف الأخرى عربياًوإقليمياً وعالمياً تشكل زاوية أخرى تسهم بدورها في ضبط أداء السياسة العربية لتركيا باتجاه مزيد من الانكماش كما نتوقع. ونعتقد أنه الاحتمال الأرجح خلال المرحلة المقبلة، وخصوصاً في ظل نمو حالة الاستعداء التي تخلقها وسائل إعلام أنظمة الطغاة العرب وحلفائهم العلمانيين الكارهين للحضور التركي؛ ليس لأن الأتراك لهم مصالح اقتصادية ومصالح سياسية في بلادنا، وإنما لأن هؤلاء الطغاة وحلفاءهم يكرهون النموذج التركي بمؤسساته الديمقراطية النيابية وليدة إرادة الشعب، ولأنهم يظنون أنفسهم أوصياء على المجتمع. إن استمرار انتكاسة الربيع العربي، يهيئ المناخ لتقوية النزعة الانكماشية في السياسة العربية للحكومة التركية. أما إذا افترضنا تعافى الربيع العربي من أزماته وانتكاساته، فسوف تكون الفرصة مواتية لنمو "حس استراتيجي مشترك" بين دول المنطقة، وهو ما تقتضيه التحولات العميقة التي تجري في مجمل النظام الدولي منذ انتهاء الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي. ولكن حتى الآن، لا تشير المواقف العربية التركية، أو التركية العربية، إلى ولادة "حس استراتيجي مشترك" على المستوى الرسميبين دول الجوار الحضاري يستجيب للتحديات التي تمر بها المنطقة؛ سواء على مستوى العلاقات العربية التركية، أو التركية الإيرانية، أو الإيرانية العربية، أو على مستوى علاقات كل هذه الأطراف بالنظام الدولي المهيمن عالمياً. ولا يزال العامل الخارجي الأجنبي الطامع في المنطقة وشعوبها يقوم بالدور الحاسم في توجه مجمل العلاقات البينية التي تربط دول الجوار الحضاري الإسلامي، ولا تزال السمة البارزة لهذه العلاقات هي "التجزئة"، و"التشرذم"، و"التضارب" في أغلب الأحيان. فلا العرب لهم سياسة موحدة تجاه تركيا، ولا تركيا لها سياسة عامة واحدة تجاه البلدان العربية. والحالة أكثر سوءاً بالنسبة للعلاقات العربية الإيرانية، وليست بأفضل حالاً بالنسبة للعلاقات التركية الإيرانية. من متابعتنا لتحركات السياسة التركية تجاه عالمنا العربي منذ وصول حزب العدالة والتنمية لرئاسة الحكومة في انتخابات سنة 2002، وبخاصة منذ أصبح داود أغلو وزيراً للخارجية في سنة 2009، نلاحظ أن السياسة العربية للحكومة التركية حاولت غرس بذور هذا "الحس الاستراتيجي المشترك" بين دول المنطقة العربية والتركية والإيرانية. وهو ما عبر عنه داود أغلو بمفهوم "عمق الاستراتيجية"، وقصد به باختصار "الذهاب إلى ما وراء حدود سايكس بيكو"؛ بمعنى تفريغها من مضمونها تمهيداً لإزالتها وفتح أبواب الحرية أمام أبناء شعوب الأمة للعمل سوياً وللتعاون معاً وبناء مستقبل أفضل لأبنائهم، ومن ثم يمكن إنهاء حالة الانسلاخ المتبادل بين شعوب ودول المنطقة، ووضع أسس قوية لنظام أمني إقليمي بين دول الجوار الحضاري يكون نابعاً من داخلها ومعبراً عن مصالح شعوبها، وليس تابعاً لقوى الغطرسة الأمريكية أو مرهوناً بالأطماع الصهيونية وحلفائها. والخشية كل الخشية أن تتغلب القوى الدافعة باتجاه الانكماشوإحياء نظرية "الانسلاخ المتبادل" التي حكمت العلاقات العربية التركية منذ إلغاء الخلافة في سنة 1924 إلى مطلع القرن الحالي. والخشية كل الخشية أن تتراجع نظرية "الحس الاستراتيجي المشترك" بين دول الجوار الحضاري الإسلامي في الوقت نفسه. لقد حرمت نظرية الانسلاخ المتبادل تركيا من عمقها المشرقي العربي/ الإسلامي، وسلختها من هويتها الحضارية، وجعلتها مجرد' طرف' تابع بشكل مطلق للمركز الأطلسي، ولم تسمح لها إلا بأن تكون عصا أمنية في يد حلف الناتو. كما حرمت هذه النظرية ذاتها البلدان العربية من السند التركي وقوته الاستراتيجية، وجعلتهم لقمة سائغة في فم القوى الأجنبية وألعوبة يتقاذفها النفوذ الأمريكيحيناً، والروسي حيناً آخر، والأوربي في كثير من الأحيان؛ دون أن يحصلوا هم أيضاً على شيء تماماً كما حدث لتركيا من جراء هذا الانسلاخ ذاته. وفي نظرنا أنه لا معنى لعودة نظرية الانسلاخ المتبادل بين العرب والأتراك إلا أن جميعهم لا يزالون في الأسر الاستراتيجي لسايكس بيكو الذي رسم لشعوب أمتنا حدود الانقسام والتناحر وحرمها من عناصر القوة وأبعدها عن أي بادرة للالتئام والتلاحم منذ مائة سنة. وأملنا أن ينجح الحاكم/الفيلسوف أحمد داود أوغلو في إيجاد حل لهذه المعضلة المزمنة. وأن تكون السياسة العربية لحكومته أقوى واكثر فعالية مما كانت عليه في المرحلة السابقة، خاصة وأن شعوب أمتنا كلما رزقت مسئولاً رفيعاً مثل دواود أغلو يقوى أملها يوماً بعد يوم في قرب الوصول إلي بر المصلحة المشتركة بعيدا عن أشباح العودة لحالة' الانسلاخ المتبادل' في سياستها العربية خاصة، والإسلامية عامة.