وفقاً لنتائج استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة "جالوب" والتي خلصت إلى أن الشعب الأمريكي شعب متدين ويقدس القيم الدينية، أوردت المؤسسة أن هذه الروح المحافظة التي سادت أمريكا منذ بداية السبعينيات تكمن وراء انتخاب رؤساء (محافظين أو متدينين) وهم جيمي كارتر (1976- 1980) ورونالد ريجان (1980-1988) وجورج بوش الأب (1988- 1992) وجورج بوش الابن (2000-2008). وقد بذل الحزب الجمهوري جهوداً مكثفة لكسب تأييد ملايين الناخبين الأمريكيين من المسيحيين البروتستانت، وذلك من خلال تبني وجهات نظرهم المحافظة فيما يتعلق بقضايا اجتماعية أساسية لديهم، مثل قضايا المرأة ومناهضة الإجهاض والزواج بين الشواذ جنسياً، وعبر الاستناد إلى خطاب ديني – وطني متشدد في القضايا (الداخلية والخارجية) العامة، وبذلك تمكنوا من تعزيز مواقع ونفوذ وحظوظ الحزب الجمهوري، من خلال دعم المنظمات اليمينية المسيحية له مثل "الأغلبية الأخلاقية" و"التحالف المسيحي" و"مجلس السياسة العامة" ورموز التطرف المسيحي من أمثال "جيري فولويل" و"بات روبرتسون"، وذلك من خلال الترويج لأجندة سياسية يمينية، عن طريق شبكات الصحف والإذاعة والتلفزيون المسيحية المؤثرة، وعبر منابر الوعظ في الكنائس وبصوره خاصة البروتستانتية، وبذلك تمكن الحزب الجمهوري منذ عام 1980 من الفوز بخمسة انتخابات رئاسية من سبعة سباقات للرئاسة، وتمكن الأعضاء الجمهوريون من السيطرة على مجلس الشيوخ الأمريكي ثماني دورات من اثنتي عشرة دورة، كما تحكم الجمهوريون في مجلس النواب خلال السنوات الأثنتى عشر اللاحقة. وعلى الرغم من أن الحزب الديمقراطي كان بعيداً في السباق الانتخابي عن وضع الدين في حساباته السياسية إلا أن الأمر قد تحول في الانتخابات الأمريكية الأخيرة فلم يعد "جورج دبليو. بوش" هو المُرشح الوحيد الذي يتحدث بإسهاب عن الدين في حملاته الانتخابية – كما فعل في جولته الانتخابية الأولى حينما أفصح في إحدى "المبارزات" الصحفية عن حبه الشديد للمسيح واعتباره الفيلسوف الأول في العالم – وإنما بات الأمر ظاهرةً لافتةً للانتباه. فالذي بدا في الانتخابات الأخيرة، هو ظهور جميع المرشحين للرئاسة الأمريكية في ثوبٍ ديني غير مُعتاد، بل وغريب على الفكر السياسي الأمريكي خاصةً، وعلى الفكر السياسي الغربي عامةً؛ حيث يتصف كلاهما بالعلمانية الواضحة. فقد قام كل من "باراك أوباما" و "هيلاري كلينتون" مرشحا الحزب الديمقراطي باستدعاء خبراء في الإستراتيجية، كي يُلقنون كلاً منهما فنون جذب الناخبين المتدينين. وبالنسبة لحملة "أوباما"، فقد كانت تعقد مؤتمراً على نحو أسبوعي، يضم أهم المؤيدين ل"أوباما" في الولاياتالأمريكية، حيث تتركز مهمتهم في نشر رسالته وسط الزعماء الدينيين. وقد استهدف الديمقراطيون، الكاثوليك الرومان، إضافةً إلى الخط الرئيسي في التيار البروتستانتي. حتى الإنجيليين باتوا من ضمن المُستهدفين لصالح المرشحين الديمقراطيين. وذلك من أجل حصد أكبر عدد من الناخبين المتدينين، أو ذوي الاهتمامات الدينية والأخلاقية في المقام الأول. ومن ثم، فلم يكن من العجيب أن يقوم كل من "كلينتون" و"أوباما" و"جون إدواردز" (الممثل الأسبق لولاية نورث كارولينا بمجلس الشيوخ) بإعداد المحاضرات لمخاطبة الإنجيليين الليبراليين؛ ومنها محاضرة "العقيدة، القيم، الفقر". يقول "جون جرين"، أستاذ العلوم السياسية بجامعة "أكرون" بولاية أوهايو: "معظم الأمريكيين ينظرون إلى الدين باعتباره ركن أساسي في حياتهم؛ وهم شغوفون حقاً بكيفية تأثير التدين على المُرشحين، وما يعتبر جديداً في العملية الانتخابية هذه المرة، هو نزوح عدد كبير من المرشحين الديمقراطيين نحو التحدث عن معتقداتهم، ونحو تنظيم حملاتهم الانتخابية بشكلٍ يغازل الناخبين المتدينين". وقد اعترف الديمقراطيون بخطأ تجاهلهم لشأن الدين في أجنداتهم الانتخابية. حيث قال السيناتور الديمقراطي الكاثوليكي "كريس دود" في منتدى بجامعة "بوسطن" في أبريل 2007: " لقد أحدث الديمقراطيون "خطأًً فادحاً في السنوات المنصرمة"؛ وذلك من خلال تغاضيهم عن تناول شأن الدين، وكيفية تأثيره على مواقفهم السياسية". وقبله في عام 2006، قام المرشح الديمقراطي "أوباما"- الرئيس الأمريكي فيما بعد- بتوجيه النقد إلى زملائه الديمقراطيين بأنهم "فشلوا في إدراك قوة العقيدة وتأثيرها على حياة الشعب الأمريكي"؛ ناصحاً الحزب الديمقراطي بضرورة العمل الجاد لكسب تأييد الإنجيليين، بل جميع الذين يرتادون الكنائس بانتظام" . وفي تفسير اهتمام الديمقراطيين هذه المرة بالناخب الديني، تقول راشيل لايزر Rachel Laser، محللة القضايا الثقافية بمركز "الطريق الثالث Third Way "، وهو مركز فكري تابع للحزب الديمقراطي، "الآن هناك حاجة ملحة ومصلحة متولدة للحديث مع كل قيادات المجموعات الدينية الذين كانوا يعدون من أعداء الحزب سابقاً". وفي النهاية فاز أوباما ولعب الدين دوراً كبيراً في فوز الحزب الديمقراطي بالانتخابات الأخيرة. فعلى الرغم من علمانية الدولة في أمريكا فلم يمنع ذلك من رفع الشعارات الدينية أثناء الانتخابات، وفي ظل الدولة العلمانية أيضاً تم إعطاء المتدين اعتباره ووزنه وثقله في الانتخابات الأمريكية، الأمر الذي دفع المرشحين للانتخابات الرئاسية، والنيابية أن يرتدوا ثوب وعباءة الدين بحسب التعبير الأمريكي، وفي ضوء هذا الثوب سعى كل مرشح في التسابق على تقديم الوعود بتلبية الطلبات الدينية للمتدينين لتطبيقها في المجتمع الأمريكي فور فوزهم في الانتخابات.