في العادة لا نواجه الحقائق بشجاعة الاعتراف. نهوى صناعة "الشماعات" وخلق الذرائع وافتعال المبررات للهرب من مواجهة جوهر المشاكل والأزمات والمصائب والكوارث. الطفل البليد يتحجج دوما بأن الوقت لم يكن كافيا لحل أسئلة الامتحان لذلك رسب. والشاب الكسول يميل إلى النوم أو الجلوس على المقهى ويتذرع بعدم وجود عمل. والموظف منعدم الكفاءة يفتعل قصصا بأن رئيسه يتقصده ويتعمد الوقوف أمام صعوده. والمرأة المهملة في بيتها تخترع أسبابا سطحية لتفسير هرب زوجها الى الخارج باستمرار. هذه وغيرها من أمثلة الحياة البسيطة من حولنا قد تكون مقبولة من أفراد ينعكس تأثير إخفاقهم على أنفسهم أو أسرهم أو محيطهم المحدود، لكن المهزلة تحدث عندما تميل السلطة إلى نفس المنطق والسلوك، هنا سيضرب التأثير الضار المجتمع كله وسيلحق به الأذى ولن تحدث معالجة جادة لأي أزمة حيث يتم التغطية عليها تهربا منها لتريح السلطة نفسها وتزعم أنها بريئة ولا تُلام، ومن هنا كان تراكم أزمات كثيرة في مصر طوال عقود حتى صار وصف كل واحدة منها أنها مزمنة وتاريخية في محله تماما. كل الأزمات الحياتية التي نعيشها ليست وليدة اليوم إنما منشؤها قديم ولأننا نفتقد الصراحة في التعاطي معها والعمل على علاجها والاعتراف بشجاعة المسؤولية عنها فإننا نواجه اليوم تراكما من مشاكل بلا حلول جذرية ناجعة لأن سياسة التهرب و"الشماعات" مازالت هي سيدة الموقف في خطاب الأنظمة المتتالية، فكل نظام يبيض صفحته، ويريد أن يظهر بأنه طاهر وبريء من آثام وأوزار وإرث الماضي، ويعد ويمني ويثير الأمل والتفاؤل بأنه سيبني حياة جديدة، ثم يفشل ويخفق ويكون ماهرا فقط في اختلاق "الشماعات". كان السادات رحمه الله يستخدم "شماعة" إزالة آثار الحرب ، لكن لم يتحسن الوضع، ثم أخذ يمني الناس بأن السلام سيجلب الرخاء، ولم يكن هناك إلا مزيد من الضيق، ولا نعلم هل لو امتد به العمر كان حقق الرخاء أم سارت الأوضاع كما حصل بعد تولي نائبه حسني مبارك السلطة لأن إدارة البلاد سارت في نفس الطريق دون تغيير بنفس السياسات تقريبا، وكان حكم مبارك هو الامتداد في نمط الإدارة للمرحلة الساداتية، بل إن الدولة المصرية في انتقالها من نظام لآخر لا تختلف في عملها وفكرها وحركتها وإن اختلفت وجوه من في السلطة حتى بعد ثورة يناير ومع وجود رئيس مدني منتم للإخوان ومن خارج السياق التقليدي لإنتاج الرؤساء وهي المؤسسة العسكرية كان الأداء النمطي المعتاد بلا تغيير ملموس. ظل مبارك يعلق الإخفاق على "شماعة" محدودية الموارد " حجيب منين "، و"شماعة" الكثافة السكانية و"شماعات" أخرى تظهر لتناسب كل فترة زمنية حتى انتهى بسقوطه في ثورة شعبية وبعده جاءت أربعة أنظمة في نحو ثلاث سنوات ونصف السنة : المجلس العسكري أدار البلاد كما في عهد مبارك ولكن بارتباك شديد، وحكم الإخوان الذي لم تكن تشكلت ملامحه بعد لكنه استسهل "شماعة" أن النظام القديم يعرقل عمله ويفشل تنفيذ أهداف الثورة رغم أن إدارة الدولة سارت على نفس نمط ذلك النظام ومال مرسي إلى مهادنة الدولة العميقة بل والتعاون معها، وبعد عزله جاء نظام انتقالي جديد وتسلم منه السلطة نظام السيسي وهو في الحقيقة امتداد مخلص له، وفي كلا المرحلتين فإن "الشماعة" هي الإخوان والمظاهرات ثم العنف والإرهاب وأن كل ذلك معطل للعمل والتنمية والإنتاج ومانع لتحسين حياة المواطنين الذين تم مغازلتهم بأن إزالة الإخوان سيأتي بعده الخير العميم والراحة الأبدية لكن تسوء الأوضاع ولا تُحل أية مشكلة ورغم أن السلطة تفاخر بأنها تسيطر وتتحكم في المفاصل وأنها تقضي على الإرهاب أي أنه لا "شماعات" مقلقة، لكن مع ذلك لا عمل واضح ولا رؤية محددة، ودعكم من ملفات الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية فقد تأخرت ولم يعد أحد يتحدث عنها وصار الحديث كله من السلطة حول حل معضلة الدعم والأزمة الاقتصادية وصار شاغل المواطنين هو ما كان قبل الثورة أي الانهماك في تدبير قوت يومهم والانشغال بالفواتير المطلوب تسديدها وقد تحول النشطاء ودعاة الحرية والحكم الديمقراطي والدولة المدنية إلى قلة وجزر منعزلة بل ومطاردين ولا مجال لهم للعمل حتى بنفس الوضع الذي كان خلال السنوات الخمس الأخيرة في عهد مبارك. لا جديد في مصر من الأمس إلى اليوم. هي "الشماعات" التي نعلق عليها أفرادا وجماعات وأنظمة الإخفاق والفشل والعجز وعدم القدرة على العمل والأداء ومع ذلك يصر كل فرد وفريق ونظام بأنه الأفضل وغيره الأفشل وأنه الأحق باحتكار السلطة والدفاع عن بقائه فيها ولو بالدم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.