في الأيام الأخيرة من الثورة ، ورغم عناد مبارك وبعض ملامح الإحباط ، إلا أن الإحساس الغالب أن هذا الشعب منصور ، وأن هذه الملايين الصابرة والمتحدية لن يخذلها الله ، في تلك الأيام ، وفي ميدان التحرير بدأنا نرى بعض الشيوخ والعجائز من أبناء الجيل أو الأجيال السابقة يتوافدون على الميدان ليشهدوا هذا العرس الذي لم تشهد مصر مثيلا له من قبل ، وكان الكل يذوب في الكل ، لا تعرف فارقا بين إسلامي وليبرالي ويساري ، وأذكر أن الكاتبة نوال السعداوي صاحبة العراك الشهير مع الإسلاميين أتت ذات صباح باكر من قبل كوبري قصر النيل ، تتكئ على إحدى صويحباتها بحكم السن وصعوبة الحركة ، وكان غالبية من في مواجهتها من الشباب الملتحي والفتيات المحجبات ، فكان أن لوحت لهم بفرح طاغ في وجهها وهي تهتف بصوت ضعيف : تحيا مصر . من بين الوجوه التي احتضنها خيالي في الميدان أو لوحت لهم أو لوحوا لي ، ثلاثة وجوه كنت طوال أيام الثورة أبحث عن صورتهم في ميدان التحرير ، وتمنيت أن أراهم وأن أحتضنهم وأن أقبل رؤوسهم أو أحملهم على كتفي وأطوف بهم في الميدان ، ثلاثة وجوه هم آباء هذه الثورة المباركة ، وإن لم يشهدوها ، بما قدموا من صلابة أسطورية في وجه القمع والديكتاتورية ، ومثابرة على الحق في أحلك اللحظات ، ودفع الوطن وشبابه في اتجاه الصمود والتحدي والثورة ، وبث الأمل بأن غدا سيكون أجمل ، وغدا ستكون بلادنا حرة ، وغدا ينكسر الطغاة ، ثلاثة وجوه لن تمحى صورهم من ذاكرة هذا الوطن أبدا ، أولهم يحيى "بيه" الرفاعي شيخ قضاة مصر والرمز التاريخي لاستقلال القضاء المصري وهيبته ، والثاني عبد الوهاب المسيري المفكر الفذ والمناضل الذي جدد روح الثورة وكبريائها بنزوله إلى الميدان عندما كان الجميع محبطين ، والثالث هو عادل حسين ، المناضل الأسطوري ، الذي ظل حتى آخر لحظة من عمره متحديا لتجبر مبارك ومؤسسته الأمنية ، وخاض أقسى المعارك ضدها ، وأسقط اثنين من وزرائها . لم يكن مبارك يهاب أحدا في مصر مثل هيبته من شخص اسمه "يحيى الرفاعي" ، القاضي المهيب ، الذي وقف أمام مبارك أمام الجميع وقت أن كان الكل ينافقه ليقول له أن الشعب المصري لا يستحق أن يحكم بقانون الطوارئ ، كما وقف بكل صلابة في وجه محاولات اختراق القضاء المصري المتعددة ، لأن مبارك كان حريصا على إفساد هذه المؤسسة بكل سبيل ، لأن فسادها يفتح له الطريق للهيمنة المطلقة ، وفشله في ترويضها يحولها إلى شوكة في حلقه وحلق عصابته ، تآمرت مؤسسات الدولة بكاملها على يحيى بيه من أجل ترويضه أو كسر هيبته أو إسقاطه من عرشه المتوج في نادي القضاة ، متوج بالحب والفخر من جموع قضاة مصر ، حتى اختاره القضاه رئيسا شرفيا مدى الحياة للنادي ، يحيى الرفاعي الذي وقف منذ شبابه صلبا لا ينحني لأحد إلا الله مدافعا عن العدالة واستقلالها في مصر ، فعاقبه عبد الناصر ونكل به السادات وحاول إهانته مبارك ، حتى وصل الحال إلى أن يحرش به محمد إبراهيم سليمان ليهدم سور بيته كما يفعل الصغار والبلطجية لمجرد "حرق دمه" أو إذلاله ، وظل يحيى بيه حتى آخر يوم في عمره يبث تلك الروح النبيلة في نفوس أبنائه من القضاة وخاصة شبابهم الذين كانوا يعتزون بلقب "أولاد يحيى بيه" ، تمر السنوات ويتناوب على البلد جبابرة وطغاة وهو لا ينكسر ولا يفقد الأمل في تحرر مصر ونهضتها ، لقد نهضت مصر يا يحيى بيه وتحررت فنم قرير العين . أما عبد الوهاب المسيري الذي قضى ربع قرن تقريبا من عمره من أجل إنجاز موسوعته الضخمة عن اليهود والصهيونية ، فقد كان مفكرا فذا ومثقفا نافذ الرؤية للبنية الثقافية للمجتمعات الإنسانية المختلفة ، وقد نال منه المرض العضال في سنواته الأخيرة ، وتلاشت قواه الجسدية ، لكن روحه الثائرة ظلت تحمل جذوة الثورة حتى آخر يوم من عمره ، فرفض المسيري أن يناضل "من منازلهم" ، كما كان يفعل كثير من المفكرين والكتاب والمثقفين ، عبر مقالات يرسلها للصحف أو برامج تليفزيونية ، وإنما أصر على أن ينزل إلى الشوارع والميادين ، وعلى سلالم نقابة الصحفيين ، في أكثر أيام مصر إحباطا ، وأكثر أوقات طغيان مبارك ونظامه ، وأكثر اللحظات يأسا لدى النخبة المصرية ، لدرجة أن بعض المظاهرات كان يعد المشاركون فيها بالعشرات القليلة ، المسيري الشيخ الكبير المهدود من المرض والسن ثار على اليأس ، وأصر على أن ينزل مع "العشرات" القليلة من المتظاهرين متوكأ على كتف بعضهم ، ونصحه كثير من الكتاب والصحفيين وبعض رجال السلطة بأن يكف عن النزول في المظاهرات لأنه لا يتحمل "نفخة" هواء من جندي أمن مركزي ، وأرسلوا له من ينصحه ، إلا أنه رفض ، فتحرشوا به وأهانوه أمام نقابة الصحفيين حتى كاد يهلك في إحداها ، وقبضوا عليه وألقوه في صحراء القطامية من أجل إبعاده عن إحدى المظاهرات ، فيعود في اليوم التالي ليواصل ، كانت حركة المسيري وإصراره أكثر تأثيرا من ألف مقال كتبه هو أو غيره ، في شحن نفوس الشباب بالثورة والغضب ، كان المسيري على يقين يشعه في من حوله بأن مصر عظيمة ، وأنها جديرة بالحرية والكرامة والديمقراطية ، وأن فجر حريتها قريب ، وأنها ليست أقل من معظم دول أوربا في تاريخها وعمقها الحضاري وقدرات أبنائها وطاقات الإبداع والتوهج فيها ، تمنيت أن يكحل المسيري عينيه بمشاهد النصر في ميدان التحرير . أما عادل حسين ، فلم تر عيني مناضلا سياسيا مصريا طوال العقود الأخيرة بمثل هذه الصلابة وبمثل هذا الوعي وبمثل هذه الثقة في النفس والوطن ، ومثل هذا التواصل المبدع مع تيارات كثيرة في مصر ، تفاعل معها ونسج خيوط حزبه من كل أطيافها بدون تكلف ولا قسر ، فجمع التيار الإسلامي واليساري والناصري والقومي في بوتقة حزب العمل ، فتحول إلى أكثر الأحزاب نشاطا وفاعلية في مصر ، وكانت بصمته واضحة على جريدة الشعب عندما رأسها أو عندما أمينا عاما للحزب ، كان شوكة في حلق مبارك ونظامه ومؤسسته الأمنية ، وهو الذي أسقط زكي بدر ومسح بكرامة حسن الألفي الأرض وهو في عنفوان جبروته وأذل يوسف والي رجل مبارك القوي آنذاك وخاض معه أشهر وأخطر معركة صحفية طوال عهد مبارك ، سلطوا عليهم البلطجية ليضربوهم في الشوارع فلم يرتدعوا ، وساوموا عادل حسين على الكثير فلم يفلحوا ، حتى نجح في تحريك الشارع المصري لأول مرة بالآلاف في مظاهرات ومؤتمرات حاشدة ، وقتها لم يجد مبارك أي حل سوى الديكتاتورية السافرة ، فأغلق الحزب وأوقف صدور جريدة الشعب ، ورفض بعد ذلك تنفيذ أحكام القضاء بعودة الحزب والجريدة حتى مات البطل كمدا وقهرا ، والغريب أن عادل حسين رغم كل هذا الحصار والقهر ظل حتى آخر لحظة من عمره على قناعة ورهان على "الجناح الوطني" في مؤسسات الأمن القومي المصري وخاصة القوات المسلحة ، كان ملهما وعبقريا وبصمة يصعب نسيانها في تاريخ مصر السياسي خلال مرحلة مبارك . بحثت عن صور هؤلاء الأبطال الثلاثة ، آباء الثورة الذين لم يشهدوا عرسها ، في ميدان التحرير ، هؤلاء الذين حلموا مبكرا بتلك اللحظة الرائعة ، وبشروا بها ، وبثوا الأمل في نفوس الأجيال في تحققها وإن طال الزمن ، لهم حق علينا أن نذكرهم ، وأن نقول لهم أنهم انتصروا ، وأن أبناء مصر لم يخذلوهم ، وأن مصر انتصرت ، وأن حلمها الجميل ولد ، وأن الطاغية كسر ، وأن مؤسسة القمع والترويع تفككت ، وأن دولة اللصوص سقطت ، وأن من تطاولوا عليهم وحاولوا إذلالهم أذلهم الله ، وأذلهم شعب مصر ، وأن "أولادك" يا يحيى بيه ينكلون بهم الآن ، ويدفعون بهم إلى السجون والزنازين ، عدلا وإنصافا. فاللهم اغمرهم برحمتك ولطفك وعفوك ، ونور قبورهم ، واجزهم عنا وعن مصر خير الجزاء ، فإنا نشهد أن قلوبهم كانت موصولة بك ، وأنهم ضحوا كثيرا من أجل العدل الذي به أمرت ، والكرامة التي حفظتها للبشر في كتابك العزيز "ولقد كرمنا بني آدم" . آمين . [email protected]