لم يعد سرا أن العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة تحول إلى "فخ" خطير لإدارة نتانياهو ومجموعته ، وأي مطالع لما تصدره الصحف الإسرائيلية يوميا من تقارير وأخبار وتسريبات يكشف بوضوح حجم الإحساس بالأزمة ، وأن إسرائيل "غرزت" في غزة ولكنها لا تعرف كيف تخرج من ورطتها ، ولم يعد خافيا علو لغة الخطاب المقاوم على ألسنة القيادات البارزة مثل خالد مشعل ورمضان شلح ، إضافة إلى قيادات الداخل الغزاوي ، وأنهم لم يعودوا ليقبلوا بمعادلة الهدنة مقابل الهدنة ، وإنما كسر الحصار الإجرامي الظالم على الشعب الفلسطيني واحترام حقه في الحياة الكريمة ، المقاومة بكل المقاييس الآن وضعها أفضل ، وأقوى ، كما أنها حققت المفاجأة في المواجهة الجديدة على أكثر من صعيد ، أخطرها على الإطلاق وصول صواريخها لأول مرة منذ نشأة الكيان الصهيوني إلى تل أبيب والمدن الكبرى ومفاعل ديمونة ، واسرائيل التي تبدو عاجزة عن اتخاذ أي خطوة تجاه التدخل البري ، رغم التلويح المتكرر بذلك والضغط الإعلامي لإرهاب المقاومة ، تدرك أكثر من أي وقت مضى أن أي تحرك على الأرض لن يكون لصالحها أبدا ، فقد برهنت المقاومة على امتلاكها سلاحا حديثا يمكنه مقاومة الدروع كما أن الروح القتالية العالية تحسم ميزان أي مواجهة لصالحها في مواجهة أفراد جيش لم يعد لديه العقيدة القتالية التي يضحون من أجلها بحياتهم . كل هذا لم يعد جديدا بعد توالي مشاهد الأيام الأخيرة ، غير أن الجديد الذي تكشف عنه تطورات المواجهة والضغوط الدولية والاضطراب الإقليمي غير المسبوق ، أن المقاومة في غزة لم تورط إسرائيل فقط ، بل وضعت مصر لأول مرة تحت ضغط شديد وإحساس متنامي بالعزلة ، وإذا كانت حماس تصر على أن أي نهاية لهذه المواجهات لن تكون مقبولة إلا بشروط جديدة فالمؤكد الآن أن هذه الشروط ستكون ملزمة لمصر أيضا التي خسرت موقعها كوسيط وشريك في الملف الفلسطيني ، لأنها لن تستطيع أن تستعيد هذا الموقع من جديد إلا بموافقة المقاومة وحماس ، وتلك الموافقة ستكون مشروطة هذه المرة ، وذلك هو التطور الخطير الجديد في الصيغة الإقليمية المتعلقة بالقضية الفلسطينية . في تقرير مهم ، قال الصحفي البريطاني الشهير ديفيد هيرست أمس أن حماس قررت "عدم السماح" لمصر بلعب دور الوسيط في أي جهود من أجل وقف إطلاق النار في غزة ، ونقل هيرست عن مصدر بارز في حركة حماس قوله إن حركته استبعدت أي دور مصري في مفاوضات وقف إطلاق النار، وأنها ستقبل فقط بتركيا وقطر كوسيطين محتملين بينها وبين إسرائيل في أية محادثات بهذا الشأن ، وأضاف هيرست إن قرار حماس لإخراج مصر من المعادلة يعتبر تحولا كبيرا في موقفها، خاصة أن مصر لعبت دورا مهما في اتفاقيات الهدنة السابقة بين إسرائيل والحركة منذ عام 2006. وفي تشرين الثاني/نوفمبر لعب الرئيس المصري محمد مرسي دورا رئيسيا في وقف هجوم جوي إسرائيلي استمر لمدة إسبوع على غزة، وهو الدور الذي أثنت الولاياتالمتحدة في ذلك الوقت. وأضاف هيرست "ولكن هذه المرة، كما قال مصدر حماس، فقد قررت الحركة أن مصر لن تكون قادرة على التفاوض لتحقيق اتفاق بعد أن مررت رسائل عبر وسطاء مصريين عشية الهجوم أن إسرائيل ستقوم بمحو ثلث القطاع، فيما زعم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أنه سيقوم بالتوسط لوقف إطلاق النار ، وبعد إعلان الجيش المصري تفجير حوالي 29 نفق تحت الحدود المصرية مع غزة، وبعد أن لاحظت حركة حماس العداء المستمر واحتفال الإعلام المصري بالغارات الإسرائيلية" على غزة. هذا هو أحد أخطر النتائج التي أفرزتها المواجهات الأخيرة ، خسرت مصر أحد أهم مواقعها التي كانت تعطيها أفضيلة لدى صانع القرار الدولي ، سواء الأممي أو الأمريكي ، ولست أبالغ إذا قلت أن النفوذ المصري في الملف الفلسطيني كان يعادل نصف قيمة الديبلوماسية المصرية في العالم كله ، للحساسية العالية للملف الفلسطيني / الإسرائيلي في جميع عواصم العالم الكبرى ، ومعلوم أن أول اتصال بين قادة العالم وأي رئيس مصري جديد يكون أول جملة فيه بعد التهنئة بالمنصب هو السؤال عن الموقف من القضية الفلسطينية وإسرائيل ، فأن تخسر مصر مكانها وموقعها هنا يعني أنها خسرت بضربة واحدة نصف ثقلها الديبلوماسي ، وهي خسارة تترجم بعد ذلك في تقلصات للدعم السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري وخلافه ، لأن العالم لا "يتصدق" عليك إلا وفق القيمة التي يمكن أن يجنيها من ورائك ، أو الدور الذي يمكنك القيام به . حماس لن تفرض على إسرائيل وحدها شروط الهدنة أو منع إطلاق الصواريخ ، بل ستفرض شروطها على الجانب المصري أيضا إذا أراد أن يعوض خسارته الفادحة ويتم القبول به كوسيط أو شريك في أي تسويات أو معاهدات ، وأعتقد أن حماس ستنتزع قرارات مهمة جدا فيما يتعلق بمعبر رفح ، كما أن اللغة ستتغير قريبا بشكل حاسم في الإعلام المصري الرسمي والخاص تجاه حماس . حماس والمقاومة أدارت الأزمة الأخيرة بشكل بالغ الذكاء ، درست جيدا حسابات الداخل الإسرائيلي وتناقضاته وسحبت نتانياهو إلى الورطة ، كما درست حسابات الداخل المصري واندفاعاته وسوء تقديره للتغييرات الإقليمية وغياب الرؤية فتركت إدارة السيسي توغل في الحسابات الخاطئة ، لكي تحقق المقاومة أهدافا تم رسمها بدقة ، وأعتقد أنها بطريقها إلى حصاد ذلك النجاح الكبير .