من الواضح أن ما سُمي بجمعة الغضب الثانية (27/ 5) أُريد لها أن تُحمَّل بما لا تحتمل، وأن تنطق بما ليس في وسعها من معانٍ وكلمات ودلالات! فكيف يزعم البعض أنها أدت الرسالة المطلوبة منها، بينما هم أعلنوا أنها ستكون "مليونية"، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يحشدوا إلا عشرات الآلاف وفق روايات متناقضة، فأين الرسالة التي وصلت إذن؟! وبماذا نفسر الإصرار على تسميتها "مليونية"؟! هذه نقطة جوهرية ومفصلية أحببت أن أبدأ بها لأن من المفترض أن كل ما يترتب عليها عند هذا البعض يصبح لا قيمة له بعد فضح هذه المغالطة. هم يبنون استنتاجاتهم واستحقاقات جمعة الغضب الثانية باعتبار أن هذه الجمعة حققت الغرض الذي عُلق عليها وأنيط بها.. فإذا ثبت بما لا يدع مجالاً للشك وعلى أكثر التقديرات كما أشرت، أنهم حشدوا فقط ربع مليون فمعنى هذا أن الجمعة لم تحقق أهدافها!! حتى لو كانت "مليونية" كاملة غير منقوصة، بل وحتى لو كانت مليونيتين، هل يمكن أن يترتب عليها أن نتجاوز إرادة شعبية سابقة مكنت لنفسها وأثبتت شرعيتها بطريقة ديمقراطية وبأضعاف هذا العدد؟! أظن أن مجاراة هذا الزعم يدخلنا في دوامة من الفوضى والعبثية؛ إذ هو انقلاب على الديمقراطية، والتفاف على الإرادة الحرة النزيهة التي كانوا أعلنوا سابقًا - قبل وعقب إعلان نتيجة الاستفتاء- أنهم ملتزمون بها وإنْ أبدوا ساعتها دهشتهم لها، لكنهم الآن يلحسون ما التزموا به! ولنا أن نتصور أن القوى الأخرى حشدت مثل هذا الحشد وزيادة، فماذا يكون الحل؟! لن نجد ساعتها مخرجًا آمنًا من تلك الحلقة المفرغة التي يبدو أن البعض يصر على أن يدخلنا فيها دون أي شعور بالمسئولية أو الالتزام الديمقراطي الحقيقي!! وحين نواجههم بهذه الحقيقة، يقولون إن الاستفتاء الذي تتمسكون به لم تصبح له قيمة بمجرد أن أضاف إليه المجلس العسكري موادَّ أخرى في الإعلان الدستوري الذي تلا الاستفتاء؛ فالإعلان قد ألغى الاستفتاء على حد قولهم. وهنا أرد بثلاث نقاط: الأولى: أن المواد التي أضافها الإعلان الدستوري للاستفتاء هي مواد لا خلاف عليها وتتعلق بالحريات وغيرها مما تتفق عليه معظم الدساتير؛ ولذلك كان الاستفتاء أصلاً لحسم الأمور الخلافية التي تتعدد الآراء بشأنها؛ حتى يمكن الخروج بإعلان دستوري تقره الأغلبية، وبالتالي تكون شرعيته مستمدة من الشعب لا من فرضه على الشعب. الثانية: أن ما أضافه المجلس العسكري في الإعلان لا يتعارض إطلاقًا مع اختيار الأغلبية كما أفرزته نتيجة الاستفتاء، فكيف تزعمون أن الاستفتاء سقط بإضافات المجلس العسكري في الإعلان؟!! الثالثة: ما تطالبون به من تكوين مجلس رئاسي ومن وضع الدستور قبل الانتخابات البرلمانية، هو يتعارض مع نتيجة الاستفتاء الذي أقرته الإرادة الشعبية، ولا يتعارض مع ما أضافه الإعلان الدستوري إلى نتيجة الاستفتاء. بمعنى: لو أن ما تطالبون به يتعارض مع ما أضافه المجلس العسكري، لكان يجوز لكم أن تقولوا: إننا لم يؤخذ رأينا في تلك الإضافة التي نختلف معها. فالمشكلة الحقيقية التي تغفلون أو تتغافلون عنها، أن ما تطالبون به لا يتعارض مع إضافة المجلس العسكري (التي كانت خارج مواد الاستفتاء) بل يتعارض مع إرادة الأغلبية. وبذلك فالاستفتاء نتيجته مازالت هي الحاكمة، وهي التي ترسم خطة الطريق أمام الانتقال السلمي للسلطة من المجلس العسكري إلى إدارة منتخبة تمثل الإرادة الشعبية، طبعًا في غالبيتها، وإلا فإن تحقيق الإجماع مستحيل!! وليسمح لي د. معتز بالله عبد الفتاح - الذي أحرص على متابعته- في ألا أوافقه فيما ذكره في الشروق (29/ 5) من أن "استفتاء مارس لم يُعطِ أحدًا صكًّا مطلقًا للحديث باسم مصر والمصريين"، بالرغم من أنه أعلن أنه مع التمسك بنتيجة الاستفتاء!! وأقول له: نعم يا دكتور معتز، لا أحد يزعم أن لديه صكًّا مطلقًا للحديث باسم المصريين، ولكن ما معنى أن توجه هذا الكلام لمن يتمسك بنتيجة الديمقراطية؟! هل يُراد منه تبرير الانقلاب على إرادة غالبية الجماهير؟! أنا أفهم أن توجه لومك لمن يقفزون على الخيار الديمقراطي ويريدون تفريغ الديمقراطية من معناها بزعم أن هناك أقلية تعارض!! ومتى كانت الديمقراطية تعني تحقيق الإجماع الذي هو غاية بعيدة المنال بل مستحيلة؟! من العجيب فعلاً أن البعض يعطي نصائح وإرشادات وتوجيهات للأغلبية بضرورة التواضع وعدم المزايدة على نتيجة الاستفتاء (وهذه النصائح حقٌ لا ريب)، ولكن أين النصح بالقدر نفسه - بل بدرجة أكبر!- لمن يريدون ديمقراطية على مقاسهم وعلى أفكارهم التي اتضح أنها لا تحظى بالقدر الأكبر؟! هل المطلوب أن نعكس المعادلة لتتحول الديمقراطية من كونها (50 + 1) إلى (50 - 1) أو ناقص أي رقم!! إن مثل هذا الحديث حين يصدر عن العقلاء أمثال د. معتز، فإننا ينبغي أن نَحذر من حجم الالتباس الذي يريد البعض أن يوسِّع رقعته، ويعقِّد خيوطه ليخنق به الديمقراطية، بينما هو لا يدري أنه يخنق الوطن، وقبل ذلك.. يخنق نفسه أولاً!!