في أعقاب تطاول جابر عصفور وزير الثقافة على الأزهر ووكيله ، واستخدامه أساليب متدنية ومهينة في الحوار ، وحشو مقاله بالعديد من المغالطات والأكاذيب ، أرسل الأزهر ردا عليه إلى صحيفة الأهرام التي نشرت مقاله ، لكن يبدو أن "الأهرام" كان لها رأي آخر ، وربما رأت الصحيفة القومية الكبيرة أن الأزهر لا يجوز له أن "يحرج" شخصية بحجم جابر عصفور الحاصل على جائزة معمر القذافي العالمية في الثقافة ! ، وقد أرسلت المشيخة مشكورة النص الكامل لمقال فضيلة الدكتور عباس شومان لصحيفة المصريون لنشره ، وهو ما فعلناه أمس ، وفي قراءتي للرد العلمي والراقي والموثق للأزهر على جابر عصفور ، لاحظت أن الأزهر يلمح بأدب وإيحاء يليق بالمؤسسة العريقة إلى أن جابر عصفور معذور لأنه لم "يتأدب" بالآداب والأخلاق التي يعلمها الأزهر لأبنائه في أدب الحوار والمناظرة ، يقول الرد (سأتجاوز عمَّا جاء بتعقيب الدكتور عصفور من أسلوبٍ غير مناسب للحوار وعباراتٍ غير لائقة .. مُلتمِسًا للدكتور عصفور عذرًا؛ لأنَّه لم يدرس ما درسناه، ولا نزال نُدرِّسُه بالأزهر الشريف من علم "آداب البحث والمناظرة) ، ثم كانت الصدمة التي تلقاها جابر ، الذي ادعى في مقاله بأن شيخ الأزهر لم يطلع على مقال الدكتور شومان ولو اطلع عليه لما رضي بنشره ، فكان الجواب الصاعق : (لم يجد الدكتور عصفور ماءً عَكِرًا يَصطادُ فيه، فأراد تعكيرَ الماء بيني وبين فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب؛ ليصطادَ في الماء الذي عكَّره، فقال: "وكلي ثقةٌ في أنَّ شيخ الأزهر لم يقرأ هذا الردَّ، وأنَّه لا يقرُّ لغتَه وأسلوبَه". وأحبُّ أنْ أُطمئِنَ الدكتور عصفور- حتى وإنْ أزعَجه ذلك - أنَّ شيخ الأزهر قد قرأ الرد، ووافَق عليه، وبارَكه، ومن ثَمَّ فإنَّ ما جاء بهذا الرد إنما يُعبِّرُ عن الأزهر كمؤسسةٍ) . في رد الأزهر الأخير على جابر عصفور قطع عليه مسالك الحيل والألاعيب التي يحترفها جابر عادة عندما يتاجر بحديث التنوير والعقل والعقلانية ليخفي حقيقة مذهبه الفكري ومنهجه الأيديولوجي ، فقال الأزهر في رده (لقد عاد الدكتور عصفور ليُكرِّر وصفَه مشايخ الأزهر ب"التنويريين"، موضحًا أنه يُريد بالتنوير: "المعنى الذي يَقرِن التنوير بإعمال العقل". لكنه نسي أن يُحدِّدَ لنا - وللقُرَّاء – عن أيِّ عقلٍ يتحدَّثُ؟ ومن ثَمَّ أيَّ تنوير يعني؟ هل هو العقل الماركسي المادي الذي له تنويره الخاص؟ أم العقل الليبرالي الوضعي الذي أنتَج تنويرَه البرجوازي الذي استَبدَل الدين الطبيعي القائم على العقل والعلم والفلسفة بالدين الإلهي؟ أم عقل ما بعدَ الحداثة التي استبدلت التفكيك واللاأدرية بمنظومات الحداثة الغربية؟ أم هو العقل الإسلامي الذي يقوم تنويره على رباط العُروة الوثقى بين الشرع والعقل، وعلى تزامُل الحكمة والشريعة) ، وفي تقديري أن الأزهر يعرف جيدا النشأة الفكرية لجابر فهو ابن المدرسة الماركسية ، ولذلك وضع الرد عليه "العقل الماركسي" في البداية ، وقد استعرض رد الأزهر نصوصا دامغة من كتابات حجة الإسلام الغزالي قديما ، وحديثا من رفاعة رافع الطهطاوي ، ومحمد عبده ، وجمال الدين الأفغاني ، ومحمد حسين هيكل ، ومحمد البهي ، وطه حسين ، والفقيه الدستوري الفذ عبد الرزاق السنهوري ، التي تتحدث بوضوح عن أن الإسلام دين ودولة ، شعائر وشرائع ، وأنه لا يمكن فصل هذه عن تلك ، ثم يخلص الرد إلى الكشف عن أن وزير الثقافة الجديد جاهل بدستور بلاده الذي أقسم على احترامه والعمل به ، أو أنه يحتقر الدستور ويضعه تحت قدمه ، عندما قرعه رد الأزهر بقوله (أمَّا قول الدكتور عصفور: "إنَّ الدساتير الحديثة تقومُ على فصل الدِّين عن الدولة في كلِّ مجالات الحياة، ابتداءً من نظام الحكم، مُرورًا بسُلطة الدستور والقوانين" ! فإنه يدعونا لأنْ نسأله: - هل من فصل الدِّين عن الدولة النص في الدساتير الحديثة على أنَّ دِين الدولة الرسمي هو الإسلام؟! - وهل من فصل الدِّين عن الدولة في مجالات الحياة، بما في ذلك القوانين، النصُّ في دساتيرنا الحديثة والمعاصرة على أنَّ مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع في هذه القوانين؟! - أم أنَّ الدكتور جابر يتحدَّث عن دساتير ليست دساتيرنا، وعن بلادٍ غير البلاد التي نعيش فيها؟!) ، وأنا لا أفهم بأي وجه يقبل جابر عصفور أن يقسم على احترام دستور لم يقرأه أساسا أو لم يعرف ما فيه ، أو قرأه وهو يعتقد بنقيضه أو يرفض الإيمان بمبادئه ، لماذا لا تستقيل وتحترم نفسك وتحترم "التنوير" الذي تبشرنا به ، بدلا من هذا الالتصاق المرضي بالكرسي على حساب المبادئ . ثم يختم رد الأزهر رده "بتأديب" جابر كوزير باستعراض نماذج مما تنشره وزارته بأموال الناس وليس بمال أبيه وأهله ، يقول الرد (لقد ادَّعى الدكتور عصفور: "أن المعتمَد في خطاب وزارة الثقافة هو خطاب الإسلام المستنير المعتدل"، ونحن نسأله: هل خطاب الإسلام المستنير المعتدل هو الذي يقولُ عن القرآن الكريم: " إنه لا تزال توجد فيه حتى الآن بعض الأخطاء النحوية واللغوية" ؟! ويقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّه كان يحكم بوثيقةٍ جاهليَّة، وليست إسلامية" ! "وأنه قد فرَض على الناس إتاوةً أو جزيةً أو خَراجًا أو رشوةً يسوؤهم أداؤها ويذلُّهم دفعها"! والذي يتَّهمُ الصحابة بأنهم:"غيروا روح الإسلام والشريعة حتى لقد طفحت على وجه الإسلام البقع الخبيثة"! والذي يقول عن أبي بكر الصديق: "إنَّه قد اغتصب حقوق النبي، وأنَّ خلافته قد انتشر فيها الجشع والفساد، وأنه قد أنشأ دِينًا غير دِين النبي"! هل هذا الذي تنشره وزارة الثقافة هو "خطاب الإسلام المستنير الوسطي المعتدل" حسب رأي وتعبير الدكتور عصفور؟! إنَّ وزارة الثقافة تنشر في مجلدات ضخمة ومتعدِّدة "الأعمال الكاملة" لمن يقول في هذه الأعمال: "إنَّ الإنسان هو الذي خلق الله، وليس الله هو الذي خلق الإنسان، وأن لفظة الله هي تعبير أدبي أكثر منه وصفًا لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفًا خبريًّا، وأنَّ أيَّ دليل يكشف عن إثبات وجود الله إنما يكشف عن وعي مزيف"! فهل هذا برأي الدكتور عصفور هو "خطاب الإسلام المستنير الوسطي المعتدل") . انتهى "تأديب" الأزهر لجابر عصفور ، ولو كنا في بلاد تحترم دساتيرها وقوانينها أو حتى كرامة شعوبها وتلزم كبار مسؤوليها بذلك ، لتمت إقالته فورا ، إن لم يتقدم هو من تلقاء نفسه بالاستقالة .