أدى الاهتمام الدولي بحقوق الإنسان مند انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى اهتزاز المبادئ التقليدية الأساسية للقانون الدولي لكون هذا القانون الذي ينظم العلاقات بين الدول لا يتلائم مع التطورات الجديدة التي أصبح فيها الفرد يتمتع بحماية النظام الدولي، ومن أهم المبادئ التقليدية التي تعرضت للاهتزاز هو مبدأ السيادة المطلقة للدولة ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول باعتبار أن أي تدخل في شؤون الدولة المستقلة ذات السيادة يعد انتهاكا لسيادتها. وبعد دخول مسألة حقوق الإنسان إلى نطاق القانون الدولي ثار الخلاف حول جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول لمنع انتهاك حقوق الإنسان، مما أثار الجدل حول مبدأ السيادة باعتباره مطلقا أم نسبيا خصوصا مع التغيرات الدولية الجديدة. والسؤال الذى يطرح نفسه هنا هو: هل يعد الاستعراض الدورى لسجل أى بلد فى مجال حقوق الإنسان تدخلاّ فى الشؤون الداخلية لهذا البلد؟ كأصل عام تعتبر الدولة هى الكفيل والمسؤول عن حماية حقوق الإنسان، وذلك بحسب الأعراف التى تحكم العلاقات بين الدول، ولا تمتلك الحكومات من حيث المبدأ الحق فى التدخل فى شؤون الدول الأخرى، ولاتزال بعض الدول تتخذ مواقف دفاعية تجاه استعراض سجلها فى مجال حقوق الإنسان مستندة إلى المادة 2 فقرة 7 من ميثاق الأممالمتحدة والتى تنص على " أن المنظمة ليس لها الحق فى التدخل فى الشؤون التى تقع بطبيعتها ضمن نطاق الاختصاص المحلى للدولة"، غير أنه أصبح من المعروف أن هذا السلوك هو محاولة لتفادى تنفيذ التزامات معينة ينص عليها القانون الدولى، دون أن يمنع ذلك مناقشة قضايا حقوق الإنسان ضمن منظومة الأممالمتحدة. ورغم أن مفهوم السيادة مازال يتمتع ببعض مظاهره الأساسية فإنه وبفعل العديد من التحولات العالمية بدأ يتراجع أمام تطور العلاقات الدولية والقانون الدولي، حيث أخذت مظاهر السيادة الوطنية التقليدية بالتراجع من خلال: - التوسع المتزايد في إبرام الاتفاقيات الدولية الشارعة، والنظم الدولية التي تتضمن قواعد وأحكام ملزمة لعموم الدول، ويمكننا أن نتمثل تلك الحقيقة الهامة فيما يلي :- * أن ثمة قواعد قانونية دولية آمرة حاليا تختص بمجالات عديدة، وقد أصبحت لهذه القواعد حجية في مواجهة كافة الدول فلا يجوز بحال الاتفاق على ما يخالفها حتى لو كان ذلك تذرعا بفكرة السيادة. * أنه قد أضحت لدينا في نطاق الجماعة الدولية نظم للرقابة و الإشراف الدولي تقوم بمهام التحقق والتفتيش وهو ما نلاحظه في مجالات اتفاقيات حقوق الإنسان والتسلح النووي واتفاقيات العمل الدولية على سبيل المثال.
* استقرار الفقه والقضاء الدوليين على عدم إمكانية احتجاج الدول بدساتيرها أو بتشريعاتها الداخلية وهي من مظاهر السيادة الوطنية للتنصل من الالتزامات الدولية سواء أكانت ذات طبيعة تعاقدية، أو ناشئة عن أحكام القانون الدولي العام والنظم الدولية ذات الصفة الشارعه حتى وإن لم تصدق الدول عليها. - الاتجاه المتنامي نحو احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ونحو كفالة الضمانات الدولية التي تمكن لاحترام هذه الحقوق وتكفل عدم انتهاكها من جانب الحكومات الوطنية. - الاتجاهات الحديثة في مجال تقنين قواعد المسؤولية الدولية والتي تجيز للشخص الدولي المتضرر إمكانية تحريك دعوى المسؤولية الدولية حال وقوع الضرر بصرف النظر عن مدى مشروعية أو عدم مشروعية الفعل الذي تسبب في وقوعه. ويقر ميثاق الأممالمتحدة بارتباط الاستقرار والسلام بالاعتراف بحقوق الإنسان واحترامها، ويرنو إلى تثبيت شروط تضمن تحقيق السلام وحقوق الإنسان بما فيها الحق فى تحقيق التقدم الاقتصادى والاجتماعى لجميع الشعوب. بالإضافة الى ذلك فقد أعلن مجلس الأمن الدولى فى العام 1992 بالإجماع أنه " لن يسمح بوقف تقدم الحقوق الأساسية عند حدود أى دولة"، كما أقر إعلان وبرنامج عمل فيينا فى عام 1993 الذى تبناه المؤتمر الدولى لحقوق الإنسان والذى عقد فى فيينا بأن " حماية حقوق الإنسان وتعزيزها هو هَم مشروع من هموم المجتمع الدولى"، وفى السياق نفسه أكد قرار الجمعية العامة بالأممالمتحدة فى ديسمبر 1993 على أن " تعزيز وتشجيع حقوق الإنسان والحريات الأساسية هو من أغراض وجود الأممالمتحدة ومن مهمات جميع الدول الأعضاء، بالإضافة إلى وجوب اليقظة المتواصلة من انتهاكات حقوق الإنسان أينما تحدث فى العالم"، ويؤكد القرارأيضاّ على أن " الحماية والتعزيز والتحقيق الكامل لكافة حقوق الإنسان والحريات الأساسية هو هَم مشروع من هموم المجتمع الدولى، ويجب أن يكون محكوماَ بمبادىء الحيادية وعدم الانحياز ومنع الانتقائية". وشددت الوثيقة الختامية للقمة العالمية فى العام 2005 على التأكيد على مسؤوليات كافة الدول عن احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع، كما تفسر حقوق الإنسان كنواة للقيم والمبادىء الأساسية للأمم المتحدة. كما أنشأ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فى العام 2006 آلية الاستعراض الدورى الشامل وهى آلية يقوم من خلالها المجلس بمراجعات لمدى وفاء جميع الأعضاء في الأممالمتحدة والبالغ عددهم 193 دولة بواجباتها والتزاماتها حيال حقوق الإنسان، حيث تجري مراجعة سجل كل دولة مرة كل أربع سنوات ونصف السنة، وهي آلية تعاونية تستند إلى معلومات موضوعية وموثوقة، على أساس من المساواة بين جميع الدول. وقد خضعت جميع دول العالم لهذه الآلية منذ انشائها ، ولقيت ترحيبا كبيرا من جميع الدول، ولم تتذرع أى دولة بسيادتها للتنصل من هذا الاستعراض أو تتشدق بها، وكان هناك تعاون ملحوظ بين الدول وبين مجلس حقوق الإنسان الدولى فى هذا الإطار. فى رأيى الشخصى لا يوجد تعارض بين حقوق الإنسان وبين سيادة الدولة على أراضيها ، وانتقائية بعض الدول الغربية فى التعامل مع قضايا حقوق الإنسان واستخدامها كذريعة للتدخل فى الشئون الداخلية للدول أو كسلاح للضغط عليها وتنفيذ أجندات سياسية واقتصادية معينة لا يتعارض مع عالمية حقوق الإنسان وقدسيتها وأن احترامها هدف يرمى الى تحقيقه كافة شعوب العالم نتيجة للمعاناة والظلم والاستبداد الذى يعانيه الكثير منهم. لقد ولى زمان انغلاق الدول على أنفسها ، وأصبح أى انتهاك يحدث لحقوق الإنسان فى أى دولة فى العالم يؤثر بالضرورة على باقى الدول ويمكن أن يمتد أثره اليها ، حيث أننا فى عصر العولمة والتواصل السريع والذى أصبح ما يؤثر فى بقعة من الأرض يصل أثره بشكل سريع إلى باقى أنحاء المعمورة ، وفى هذا السياق لم تعد حقوق الإنسان شأناّ داخلياّ تتعامل معه الحكومات داخل أراضيها حسب ماترى بل أصبحت معياراً دولياً يتعامل المجتمع الدولي على أساسه مع كافة الدول وتحكمه معايير وقواعد وأسس وأعراف وقوانين ذات طبيعية عالمية، وفى عالمنا المعاصر يقاس مدى تحضر الأمم بمدى احترام حقوق الإنسان لديها وبمدى تمتع كل مواطن بحقوقه وحرياته.